نجم الهاشم
قبل أن يتمّ نشر حديث الرئيس ميشال عون مع الرئيس حسّان دياب في القصر الجمهوري وقوله إنّ الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري يكذب لم تكن علاقة الإثنين، عون والحريري، قويّة حتى تنهار. بين الرجلين مسافات. أحياناً كانا كخطين متوازيين لا يلتقيان وأحياناً بدا أنّهما لا ينفصلان. إن التقيا أو انفصلا كان ثالثهما الوزير جبران باسيل. تلك الجدلية في هذه العلاقة لا تقف عند حدود الحريري الإبن بل تتعدّاه إلى الحريري الأب. علاقة كان الودّ فيها غالباً مفقوداً.
عندما طلب المحقّق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت القاضي فادي صوان استجواب رئيس الحكومة المستقيل الدكتور حسّان دياب كمدّعى عليه في هذه القضية، سارع الرئيس سعد الحريري إلى السراي الحكومي ليتضامن معه دفاعاً عن موقع الرئاسة الثالثة ووقف إلى جانبه لالتقاط صورة تذكارية انتظرها دياب وكان يتجنّبها الحريري. حتى عندما التقاه دياب في بيت الوسط خلال قيامه بجولة استشاراته لتشكيل حكومته، كان واجماً ومقطّب الحاجبين وبالكاد نظر إليه. بعد كلام الرئيس عون بحقّ الرئيس الحريري لم يظهر أنّ الرئيس دياب قد اعترض عليه أو انتفض تحصيلاً لكرامة الرئيس الحريري ولا تحدّث عن صون موقع الرئاسة الثالثة. بدا دياب مستمعاً من دون تعليق. ولكنّ الرئيس عون قال ما قاله على سجيّته، وكأنّه يتحدّث مع أحد أفراد أسرته عن شخص عادي في جلسة عائلية، وليس عن رئيس مكلّف تشكيل الحكومة وفي جلسة رسمية مع رئيس حكومة مستقيلة وأمام كاميرات التصوير التي كانت تسجّل.
ربّما كان من الممكن أن يمرّ هذا الكلام من دون أن يثير أيّ ردّ فعل لو لم يتمّ تسريبه. ولكن طالما حصل هذا الأمر فقد زاد من تعقيد عملية تأليف الحكومة التي كانت تواجه أكثر من مشكلة وكشف قلّة الثقة بين الرئيسين اللذين لا تتشكّل الحكومة إلا باتفاقهما وتفاهمهما. ليست مسألة بسيطة أن يصف رئيس لجمهورية رئيس حكومة بأنه يكذب. وليست مسألة بسيطة أن يمرّر الرئيس الموصوف هذه الصفة من دون ردّ فعل. ولكن في النتيجة الرجلان يسيران معاً في الطريق نفسه داخل جهنم.
طيف الحريري الأبّ
من الأساس لم تستقم علاقة الرئيس عون مع بيت الحريري. منذ اعتلى عون سدّة قيادة الجيش في العام 1984 كان رجل الأعمال رفيق الحريري ناشطاً على خط العلاقات اللبنانية السورية، موفداً لعاهل المملكة العربية السعودية الملك فهد. كانت علاقاته وأدواره تتجاوز موقع عون في قيادة الجيش. وعندما صار عون رئيساً للحكومة العسكرية لم يحصل أن زاره مثلاً الرئيس رفيق الحريري ولم يلعب دور الوسيط بينه وبين النظام السوري لوقف حرب التحرير. كان الحريري الأب يبحث عن حلّ من دون عون. عندما ذهب البطريرك مار نصرالله بطرس صفير إلى الفاتيكان في آخر أيلول 1989 ليتابع من هناك اجتماعات النواب اللبنانيين في الطائف، كان الرئيس رفيق الحريري الأسرع في طلب لقائه وزيارته. كان يحمل معه لائحة بأسماء مرشحين لرئاسة الجمهورية ليعرضها على البطريرك صفير ولم يكن اسم الجنرال عون واحداً منهم. ولكنّ عون الذي لم يكن مطمئنّاً لما يحصل في الطائف ومن خلال معرفته بالدور الذي يقوم به الحريري هناك، للتوصل إلى اتفاق نهائي وانتخاب رئيس جديد للجمهورية بحكم موقعه المتقدم داخل دائرة القرار السعودي، سارع إلى إرسال ضابط للتحرّي عما يفعله الحريري في روما وعما يفعله غيره أيضاً. من هناك بدأت دائرة الشك والإرتياب ولم تغيِّر الأيام من هذا الواقع ولم تُمحَ هذه الدائرة.
لم يكن جبران باسيل موجوداً وقتها حتى يتمّ تحميله مسؤولية تردّي العلاقة بين عون والحريري الأب. كلاهما لم يكن يحتاج إلى طرف ثالث حتى يهدم سلم التواصل والكيمياء الشخصية غير الموجودة أصلاً. بعدما غاب ميشال عون عن المشهد اللبناني وأقام في باريس حضر رفيق الحريري بكثافة في ذلك المشهد. ولم يكن من المقدّر ألّا تكتب عودة عون إلى لبنان إلا بعد غياب رفيق الحريري. مع أنّ التناقض بين الرجلين لم يكن يعني أبداً أنّ وجود أحدهما يجب أن يلغي الآخر ولكن تلك الأقدار كانت هي الحاكمة.
ما عجزت عنه مدافع عون استطاعت أن تحقّقه كلمات البطريريك صفير وقوى المعارضة المسيحية التي تمثّلت بلقاء قرنة شهوان، ومن خلال مصالحة الجبل مع رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط والتلاقي مع رئيس الحكومة رفيق الحريري. اغتيال الحريري في 14 شباط 2005 فجّر هذه المعارضة لاستمرار الإحتلال السوري للبنان، وفي ظلّ القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن والداعي لسحب الجيش السوري من لبنان، ومع تأكيد الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن على تنفيذه، إنصاع رئيس النظام السوري بشار الأسد ونفّذ القرار.
إنقلاب عون
منذ عودة عون في 7 أيار 2005 ساءت العلاقة أكثر مع “تيار المستقبل” وسائر قوى 14 آذار. لم يحتج عون كثيراً ليعتبر أنّ الخلاف الذي كان قائماً بينه وبين سوريا انتهى بمجرّد انسحاب جيش النظام السوري من لبنان، وأنّه لم يبقَ هناك ما يحول دون زيارته دمشق ولقاء رئيس نظامها بشّار الأسد. لم يحمل عون الشعور نفسه تجاه الأسد الأب والأسد الإبن على عكس ما فعل مع الحريري الأب والحريري الإبن. كان يستطيع أن ينام في دمشق ولا يقدر أن يغفر لرفيق الحريري. ولذلك لم يكن عنده أي رادع يحول دون الذهاب إلى تفاهم كامل مع “حزب الله” وأمينه العام السيد حسن نصرالله في 6 شباط 2006، على رغم الإتهامات التي وجهت إليه وإلى النظام السوري بالوقوف وراء عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقبل أن يجفّ دم الحريري الأب وقبل أن يمرّ عام واحد على اغتياله.
لم يكن هناك أي رادع يعيق حركة عون في هذا الإتجاه. حتى هذه المرحلة أيضاً كان باسيل يلعب في الخطوط الخلفية ويتقدم نحو الخطوط الأمامية ليحتلّ واجهة “التيار الوطني الحرّ” بتغطية ومباركة والد زوجته الجنرال عون، الأمر الذي أتاح له أن يجتاز هذه المسافة بسرعة فائقة.
إنقلاب “حزب الله”
عندما أغار “حزب الله” على بيروت والجبل في 7 أيار 2008 مستهدفاً سعد الحريري ووليد جنبلاط لم يتردّد عون في الترحيب بهذا العمل. كان يعتقد أنّ هذا الإنقلاب العسكري على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وعلى قرار إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وبقضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يمكن أن يحمله إلى رئاسة الجمهورية. لم يعترض مثلاً على تسوية الدوحة السياسية ولكنّه اعترض على خيار أن يكون قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. اعتبر أن الرئاسة له وتمّت سرقتها منه وانتظر الفرصة الثانية. مع عهد سليمان تأجّلت رئاسة عون وبدأت مسيرة جبران باسيل السياسية عندما تمّ فرضه وزيراً للإتصالات في العام 2008.
الطعن بالظهر
بعد انتخابات العام 2009 دخل سعد الحريري جنّة السلطة رئيساً للحكومة التي حصل فيها محور “حزب الله” مع “التيار الوطني الحر” على الثلث المعطّل وصار جبران باسيل وزيراً للطاقة. هذا التحالف السلبي لم يتوانَ عن طعن الحريري الإبن في 12 كانون الثاني 2011 بالإستقالة من الحكومة لإسقاطها، بينما كان يقف على عتبات البيت الأبيض في واشنطن للقاء الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. لم تقف الطعنة عند هذا الحدّ ليكتمل الإنقلاب بإطاحة الحريري من لبنان وتشكيل حكومة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي. كان من الممكن ألا ينسى الحريري تلك الطعنة ولكنه تناساها بحكم موجبات اللعبة السياسية والرغبة في العودة إلى السراي.
حاول الحريري العودة إلى لبنان وإنهاء غربته القسرية التي بدأها بعد تنحيته عن رئاسة الحكومة. من خلال الفراغ الرئاسي الذي نجم عن عدم انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس ميشال سليمان وتمسّك “حزب الله” بالعماد عون مرشّحاً وحيداً وتعطيله النصاب القانوني لجلسات انتخاب الرئيس، توجّه الحريري إلى خيار محاولة الإتفاق على انتخاب عون. عندما فشلت هذه المحاولة سعى إلى خيار سليمان فرنجية رئيس “تيّار المردة”. لم يتنازل “حزب الله” عن خيار عون من أجل خيار فرنجية. ذهب رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع إلى تبنّي خيار انتخاب عون بعد اتفاق معراب معه في 18 كانون الثاني 2016. بقي أن يمشي الحريري في هذا الخيار. استغرق معه الأمر عشرة أشهر حتى أعلن سيره به وكأنه كان يتجرّع كأس السمّ. ولكن بعد انتخاب عون في 31 تشرين الأول 2016 وتشكيل الحريري حكومته الأولى بدا وكأنّ سمّ تأييد عون تحوّل إلى عسل. طغت علاقة الحريري مع جبران باسيل على علاقاته الأخرى. أحاديث كثيرة تسرّبت عن تفاهمات عقدها معه في باريس وغيرها تحت سقف التسوية الرئاسية. بدا خلال الأعوام الثلاثة من عهد عون كأنّ علاقة التحالف بين الحريري وباسيل هي التي تتقدّم على غيرها، وقد ترجمت بشكل بارز في انتخابات أيّار 2018 عندما دعا الحريري علناً في الشمال إلى انتخاب صديقه جبران. كانت تلك ذروة علاقة العسل. ولكن لم يكن وارداً عند الطرفين أن ثورة ما ستحصل في 17 تشرين 2019 لتفرض على الحريري تقديم استقالة حكومته ولتحاصر العهد وباسيل.
الكذبة الكبرى
إستقالة الحريري كانت أيضاً كتجرّع كأس السمّ. خرج من اللعبة ولكنّه بقي منتظراً. تحالف عون و”حزب الله” شكّل حكومة حسّان دياب التي سقطت بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. أسماء عدة مرّت على شاشة رادار تشكيل الحكومة ولكنّها سقطت لتعود الكرة إلى ملعب الحريري. هذا الأمر كان كأنّه كأس سمّ مفروض على العهد. أعلن الحريري أنّه مرشّح طبيعي لرئاسة الحكومة وقَبِل حصول الثنائي الشيعي على وزارة المالية، معلناً مرّة جديدة أنّه يتجرّع كأس السمّ ووافق على أن يسمّيا وزراءهما. ولكن لم تكن هذه هي المشكلة الوحيدة حتى يتمّ العبور إلى تشكيل الحكومة. لا يمكن أن يقبل رئيس الجمهورية أن يتمّ تجاوزه وتجاوز صهره باسيل خصوصاً بعدما فرضت عليه العقوبات الأميركية على خلفية اتهامه بالفساد. حديث الرئيس عون عن الحريري واتهامه بالكذب كان بمثابة السمّ الذي يكاد يقتل العلاقة إذا لم يتمّ تأمين اللقاح المضاد له. هذا اللقاح ليس متوفراً وليس هناك بعد من هو مستعدّ للتبرّع به أو تأمينه، في وقت يرزح اللبنانيون تحت ثقل الأزمة الإقتصادية وينحجرون في منازلهم بعد أن تشرّدوا في الشوارع بحثاً عن ربطة خبز وانتظاراً للقاح تأخر وصوله، في بلد لم يعد لهم فيه نقطة عسل. فكيف يمكن أن يستعيد الحريري وعون وباسيل عهد العسل؟ المسألة أكبر من أزمة حكم وحكّام. إنها مسألة أخلاق مفقودة وقلوب متحجّرة وعقول فارغة وأفكار سامة لا مكان فيها للعسل. إنها القيادة إلى جهنم في عملية تشكيل حكومة ليست إلّا الكذبة الكبرى.
نداء الوطن