الخبر بالصوت

أكد رئيس “كتلة المستقبل” الرئيس فؤاد السنيورة أن جدران الخوف والصمت انهارت مع انهيار حواجز الزمان والمكان بسبب ما حملته معها ثورة الاتصالات، لافتا الى أن النزاعات التي لم تعد جيوسياسية أو قومية أو اقتصادية فحسب وإنما أصبحت تأخذ أبعاداً حضارية ودينية وطائفية ومذهبية.

ورأى أنه “قد يختلط الأمر على الكثيرين مما يدفعهم إلى الظن أن جوهر المشكلة في المنطقة قد أصبح الصراع بين السنة والشيعة وهو الأمر الذي يجب أن نحرص على أن لا ننساقَ إليه أو نقبل به”، معتبرا أنه ينبغي العمل على “إبراز الصراع الآخر وهو الصراع بين قوى الاعتدال وبين قوى التطرف بجميع أشكالها”. 

كلام الرئيس السنيورة، جاء خلال في منتدى الاقتصاد العربي الدورة 23 تحت عنوان: “التحديات التي تواجه بلدان المنطقة واقتصاداتها وكيفية استعادة الاستقرار السياسي على المستوى الاقليمي” – (دورة سعيد خوري).

وفيما يلي النص الحرفي لكلمة الرئيس السنيورة:

“على مدى خمسة عقود ماضية تتراكم التحديات وتستعر الخلافات في المنطقة العربية ويسيطر الغموض وتنقلب الأدوار وتتبدل التحالفات، وينكفئ أحياناً دور اللاعبين الدوليين عن المنطقة، فيما يتنامى بالمقابل دور الفاعلين الإقليميين. ويحتدم بالتالي الصراع على النفوذ والسيطرة.

والنتيجة: زيادة حدة الاضطراب مع تفاعل العوامل المحركة للصراعات والنزاعات في النظام الدولي وفي المنطقة، وهي النزاعات التي لم تعد جيوسياسية أو قومية أو اقتصادية فحسب وإنما أصبحت تأخذ أبعاداً حضارية ودينية وطائفية ومذهبية. هذا في الوقت الذي انهارت فيه جدران الخوف والصمت مع انهيار حواجز الزمان والمكان بسبب ما حملته معها ثورة الاتصالات.

غموضٌ يزداد تفاقماً مع ظهور التنظيمات المتطرفة كتنظيم داعش، والتنظيمات الإيرانية المسلَّحة في عددٍ من الدول العربية، ومحاولة داعش والتنظيمات الإيرانية للانتشار والسيطرة. وغموضٌ حول مستقبل العلاقات الأميركية – الإيرانية ودور إيران في المنطقة. وغموضٌ حول مستقبل عملية السلام الإسرائيلي- الفلسطيني. وغموض كبير ومتعاظم في المسائل الاقتصادية والاجتماعية مع انكشاف اكثر دولنا العربية على المخاطر الاجتماعية والأمنية والسياسية والثقافية المتزايدة التي تحملها هذه التحولات والتي فاقمها فشل معظم الأنظمة العربية في بناء المؤسسات السياسية، التي تحترم الحريات وحقوق الانسان، وفشلها في بناء الأنظمة الاقتصادية القادرة على التلاؤم مع المتغيرات والتحولات الديمغرافية والاجتماعية بما يمكنها من معالجة الكم المتعاظم من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. وغموض في كيفية مواجهة العرب لهذا كله وفي كيفية الحفاظ على الأمن القومي العربي.

وسط هذا الكم من الغموض المترافق مع التحولات الكبيرة، وفي خضم هذه الصدمات والمتغيرات وما يكتنفها من مصاعب وعراقيل تبرز أهمية عدم فقدان الرؤية الشمولية للمتغيرات الكلية ويظهر مدى القصور الذي نَتعامل على أساسه بلداننا العربية مع مسألة الحفاظ على الأمن الجماعي Collective Security وأهمية تعظيم المصالح المشتركة Common Interest.

وسط هذه المتغيرات العاصفة تبرز أهمية عدم تغليب التناقضات الفرعية على التناقضات الاساسية وكذلك أهمية العودة في الملمات إلى الأساسيات والمرتكزات والاهتداء بها للولوج إلى قضايا الحاضر والمستقبل باقتدار. ويتضح كذلك مدى عمق المأساة التي يعيشها عالمنا العربي في استمرار القضية الفلسطينية من دون حل عادل وتأخر عودة مصر لممارسة دورها الطليعي والمسؤول في العالم العربي، واستمرار مفاعيل الزلزال الذي نتج عن الغزو الأميركي للعراق الذي زعزع النظام الإقليمي في منطقة المشرق العربي وجرى بموجبه تقويض الدور التاريخي للعراق كدولة عربية قوية حاجزة بين الداخل الآسيوي والبحر المتوسط. ذلك مما سمح ببروز وتصاعد دور التدخل الإيراني والسطوة الإيرانية في المنطقة المدفوعة بنظرية تصدير الثورة المرتكزة على فكرة ولاية الفقيه العابرة للحدود السياسية، والتي سعت وتسعى لبسط سيطرتها ونفوذها عبر شبكة من التنظيمات المسلحة والتي تسهم بدورها بتأجيج هذه الصراعات والانقسامات الداخلية وزيادة حدة الاحتقان والتطرف. والدليل على ذلك ما يولده هذا الدور من احتقان في العراق وسورية ولبنان والتفاقم الذي تتسبب به محاولة اختطاف القضية الفلسطينية وقضية الدفاع عن الإسلام، ومحاولات فرض الغَلَبة والهيمنة في أربع دول عربية كما سمعتم قبل أسابيع.

في المقابل، سمح ذلك بتصاعد دور الميليشيات المتطرفة التي صارت لبعضها وظيفةٌ داخليةٌ مُدَّعاة هي حماية أهل السنة وحقوقهم من التغول المذهبي والإيراني. وذلك كلُّه فتح الباب على مصراعيه أمام جملةٍ من الشرور لكي تدخل الى الوطن العربي، وأشعل النيران في أرجاء عربية واسعة.

في ضوء هذا الاستعراض للقوى المتحالفة والمتصارعة على الساحات الساخنة في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وإلى حدٍّ أقل في مصر والبحرين، قد يختلط الأمر على الكثيرين مما يدفعهم إلى الظن أن جوهر المشكلة في المنطقة قد أصبح الصراع بين السنة والشيعة وهو الأمر الذي يجب أن نحرص على أن لا ننساقَ إليه أو نقبل به وبالتالي على أهمية العمل من أجل العودة الى التأكيد على القواسم المشتركة الكثيرة التي تجمع بين كافة مكونات شعوبنا العربية بالرغم من تعدد المناطق والأديان والمذاهب. وعلى ذلك نرى كيف تتراجع، وبسبب تعاظم المشكلات النازلة بنا، أهمية القضية الفلسطينية التي تظل أم القضايا في عالمنا العربي.

إنه ومع التأكيد على كل ذلك ينبغي العمل على إبراز الصراع الآخر وهو الصراع بين قوى الاعتدال، التي تؤمن بفكرة الدولة المدنية التي تحترم التنوع والعيش المشترك وحقوق الإنسان وحيث يتساوى جميع أبنائها في الحقوق والواجبات من جهة، وبين قوى التطرف بجميع أشكالها والتي تؤمن بنوعٍ آخَرَ من الدولة يكون أساسُهُ إقحامَ الدين أو المذهب، وعلى غير حقيقتهما، في الدولة سواءٌ أكانت يهودية أم دولة الخلافة أم دولة الولي الفقيه أو غيرها والتي يكونُ بنتيجتها إفسادُ الدين وإفسادُ الدولة.

الحقيقةُ إنّ قوى الاعتدال في المنطقة تواجُهُ قوى التطرف والإرهاب، التي وإن كان يبدو أن هذه الأخيرة تتصارع مع بعضها بعضاً في بعض الساحات إنما هي في الواقع ومن خلال تصارعها تغذّي وتُطيل عُمُر بعضها بعضاً. في ضوء ذلك ولتحقيق الفوز في هذا الصراع يجب أن يتركز العملُ على إعادة بناء التوازن الاستراتيجي الذي ٱختلَّ في المنطقة من جهة أولى، وعلى تعزيز قوى الاعتدال من جهةٍ ثانية. وهنا يجب علينا أن نقولها واضحةً وصريحة:

إنّ العرب والمسلمين المعتدلين هم وحدهم القادرون على كسْر قوى التطرف في المنطقة وعلى عواتقهم تقع مسؤوليةُ تحقيق ذلك. كما أن الدولة المدنية وحدها هي التي يمكنها أن تكون الضامن الحقيقي لاحترام حقوق جميع المواطنين أفراداً وجماعات، أكثريات وأقليات. ولا يكون ذلك باختراع ضمانات إقليمية من هنا ودولية من هناك والتي هي أشبهُ بالسراب.

على هذا يصبح من الضروري على قوى الاعتدال العربي أن ترفعَ من مستوى تصديها في هذا الصراع وذلك من خلال التركيز على ثلاثة محاور:

المحور الأول: عدم تغييب القضية الأساس، وهي القضية الفلسطينية ومسألة الصراع العربي الإسرائيلي.

المحور الثاني: وهو تفعيل العمل العربي المشترك بشقّيه السياسي/ الأمني والاقتصادي. وهذا يقتضي تطوير موقفٍ عربيٍّ جَماعي واضح وحازم يستعيد التوازن الاستراتيجي في المنطقة ويتصدى للاجتياح الإيراني للدول والمجتمعات العربية وحتماً للتحدي الاسرائيلي ولاستمرار عدم وجود حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية عبر المبادرة العربية للسلام.

ويكونُ هذا أولاً من خلال العمل بجد من أجل استعادة وعودة مصر للعالم العربي لتلعب الدور المنوط بها والذي لا يستطيع أحدٌ غيرُها القيامَ به، وعلى أن يكون ذلك بمساعدتها على أن تتخفف مما تعانيه من صدمات داخلية سياسية واقتصادية وأمنية.

لقد بادرت المملكةُ العربية السعوديةُ ومعها الدول المشاركة إلى مواجهة هذه التحديات عبر إطلاق عاصفة الحزم. لكنّ الامر لا يقف عند هذا الحد بل المطلوبُ العمل على إيجاد الحل السياسي والصيغة السياسية والاجتماعية التي تعيد التماسك الوطني إلى المنطقة بشكل عام واليمن على وجه الخصوص. ويتضمن ذلك المباشرة بتنفيذ برنامج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في كافة انحاء اليمن.

إنّ كلَّ ذلك لا يمكن أن يتمَّ من دون التمسُّك بحماية حقوق الانسان وايجاد الصيغة السياسية التشاركية. على غرار روحية الحل اللبناني القائم على العيش المشترك الذي ترسخ وتم التأكيد عليه في الطائف والذي يعمل على إشراك الجميع من دون إقصاء أحد أو تهميش لدور أحد وبما يؤمِّنُ العملَ على تحفيز كل المكونات الاجتماعية والاقتصادية العربية على الفعالية والمشاركة.

أما في الشق الاقتصادي، فلا ينبغي أن تحجب التحديات السياسية، التي نتصدى لها كعرب، العديد من التحديات الاقتصادية التي نحن في خضمها وأبرزها التزايد السكاني وتراجُعُ جهود التنمية وتراجع معدلات النمو وتدنّي مستويات الإنتاجية وبالتالي تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وتفشّي الفساد وتراجع الثقة بالمستقبل. والخطرُ الأكبرُ هو ارتفاعُ معدَّلات البطالة وخاصةً بين الشباب. ويشكّل ذلك كما هو معروف مصدر قلق كبير في معظم البلدان العربية. ويُضافُ إلى جملة التحديات الانخفاضُ الكبيرُ الحاصلُ في أسعار النفط مع ما قد يجلبه ذلك من أخطارٍ على اقتصادات الدول العربية المنتجة والمصدرة والمستهلكة على حد سواء.

إنّ التحدي الكبير الذي يواجهنا الآن وأكثر في السنوات العشر القادمة يكمن في كيفية إيجاد 50 مليون فرصة عمل جديدة لاستيعاب المنضمين الجدد إلى سوق العمل العربية. كيف يمكن أن نعملَ على تأهيل جزءٍ وافرٍ منهم من أجل التلاؤم بمعارفهم ومهاراتهم مع طبيعة الحاجات القادمة لاقتصاداتنا العربية.

إنّ هذه الإشكاليات مع عمق تداعياتها السلبية قد تشكل فرصةً يمكن استيلادها من رحم المشكلات للدول العربية المنتجة للنفط والمستوردة له على حد سواء وذلك للسير في برامج إصلاحية حقيقية لاقتصادياتها ولمالياتها العامة لتنويع الاقتصادات الوطنية ولتعزيز معدلات النمو وجهود التنمية البشرية والاقتصادية وترشيق القطاع العام ولتمكين القطاع الخاص العربي من جذب الاستثمار الأجنبي المباشر.

علينا مرة ثانية ان نكون صادقين مع انفسنا: لا يمكن لأي اقتصاد عربي بمفرده أن يحلَّ وحده هذا الكم الكبير من التحديات التي يواجهها، وبالتالي فقد حان الوقت بل تأخرنا من أجل التحرك  وفق رؤية واضحة لتحقيق تكامل اقتصادي عربي يعود بالنفع على جميع الاقتصادات العربية وكذلك على دول الجوار ويسهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والأمني والسياسي في دولنا العربية.

أما المحور الثالث: فهو في التعاون من أجل التصدي للحركات المتطرفة وضرورة المبادرة الى القيام بجهود مصممة لخوض غمار الإصلاح الديني، وذلك بهدف إنقاذ الاسلام من هذه الآفات والجرائم التي ترتكب باسمه.

فالمسلمون من مفكرين وقياديين وقادةٍ دينيين ومؤسسات دينية، لديهم عمل كثير ومسؤوليات كبيرة في إعداد البرامج الهادفة لإصلاح التعليم الديني، وتشجيع التفكير النقدي، وتغيير الرؤية للعالم، خاصةً بعد عقودٍ من استتباع الأنظمة العسكرية والأمنية للمؤسسات الدينية. لقد آن الأوان ليُسهمَ المسلمون من كل الجنسيات في مهمة الإصلاح الديني الإسلامي بإثراء المنظور الديني وتعميقه عبر إعادة الاعتبار للعلم والمعرفة وتأكيد المطالبة بتوفير حقوق الإنسان والانفتاح على العالم على قاعدة أُخوّةِ البشر وتعارُفهم وتعاوُنهم في المشتركات والمصالح الكثيرة والكبيرة التي تجمعُهُم في الحاضر والمستقبل.

في ضوء هذا الواقع الصعب يتبين بما لا يقبل الشك أنه لا يمكن لدولنا ولمجتمعاتنا العربية أن تلقى الاهتمام والاحترام في محيطها وفي العالم في ظل غياب موقف عربي حازم وفكر عربي مبادر. على العكس من ذلك، فإنّ حال التشرذم والانقسام والتشاطر على بعضنا بعضاً يدفع بدول الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي إلى تجاهلنا والاستخفاف بنا.

هناك حاجةٌ ماسةٌ لتكوين موقف عربي بما يعيد للعرب احترامهم بدايةً لأنفسهم ولدى غيرهم ويستعيد بموجبه المواطنون العرب بعض الأمل في المستقبل، ويُعيدُ إليهم احترام العالم لهم ولقضاياهم. إنّ ما نأمله من هذا الموقف العربي المستجد والمتمثل بعاصفة الحزم في اليمن أن يشكِّلَ الخطوةَ العمليةَ الأولى في إنتاج موقف عربي يُخرجُ الأمة من حال التقاعس والتواكل ويوقف حالة الانحدار العربية.

أيها الإخوة،

هناك قولٌ قلته سابقاً وأردده الآن وهو في اللغة الانجليزية من المفيد الاستشهادُ به وهو يقول: “Stand up to be counted”، وهو يعني وجوب الوقوف أو اتخاذ الموقف الملائم لكي يرى وينظر إليه المُلتفّون حول الطاولة أو المسرح وبالتالي لكي يحسبوا حساباً للمبادر العربي، والمشارك العربي.

ختاماً لحديثي، لدينا ضرورات وتحديات استراتيجية وسياسية واقتصادية ودينية. وهي تتطلب أربعة أمور: إنضاج مبادرة الدفاع العربي المشترك في المجال الاستراتيجي، والتقدم على مسار التكامل في المجال الاقتصادي والتنموي، والاصلاح السياسي باتجاه الدولة المدنية الحافظة للحقوق والواجبات في مجالات الفعالية والمشاركة، والاصلاح الديني باتجاه تجاوُز انشقاقات التطرف والعنف، ونُصرة توجهات الاتجاه الرئيسي في الاعتدال والسلم المجتمعي، والانفتاح على العالَم.

هذه التحديات والمخاضات كما سبق القول، يمكن ان تُنتجَ الفُرَص. ولا شيءَ يُضاهي أشواقَ شعوبنا وآمالَها في السِلْم والسلامة والكرامة والحرية، للدخول بالمشاركة بكفاءةٍ في عالَم العصر، وعصر العالم.

وشكراً”.

 

اترك تعليقًا