الخبر بالصوت

 

 

وجه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة شهر رمضان المبارك الى اللبنانيين، واعتبر أنه “يقدم علينا شهر رمضان كل عام خير مقدم. فالصوم فريضة في القرآن الكريم، بمقتضى قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”. وهو عمل رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، وحبه وأداؤه للطاعات، يدل على ذلك كثرة أحاديثه في الحث على أداء الفريضة، وفي تبيان الفضائل الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية لرمضان وصومه. وإذا كانت الصلاة عماد الدين، والحج موطن اجتماع جماعة المسلمين؛ فإن الصوم – فضلا عن كونه عبادة رئيسة في الإسلام والأديان، فقد صار علما على الإسلام في العالم.

أيها المسلمون، أيها اللبنانيون:

وسط الزحام المتكاثر من الهموم والأحداث، يعود رمضان وصومه إلى حياتنا، تقويما واخباتا، وتذكيرا ونصرة لجانب الخير في نفس المسلم.

يقول الله سبحانه وتعالى “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”. وهذا التأكيد دليل على أن الصوم هو جزء جوهري من عبادة الله في كل رسالات التوحيد، وقد جاء ذلك في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به). فمن جهة يقول القرآن: “لعلكم تتقون”، أي تبلغون أعلى درجات التقوى، فتفوزون بالفلاح والسعادة الدنيوية والأخروية، ومن ناحية أخرى، يكون اختصاص الصوم، بأن الجزاء على أدائه وإنجازه من الله وحده، ولا شرف أعظم من ذلك.

لماذا هذا الإعزاز الإلهي للصوم، واعتباره ركنا من أركان الدين، كل العبادات الدينية، تتناول تهذيب النفس والجسد، وبخاصة، الصلاة والصوم والزكاة والحج. فالواضح أن الصوم الذي يعني الإمساك عن الطعام والشراب، وعن انفلات اللسان والخصومات، والإقبال على العبادة والذكر وقراءة القرآن، والزكاة والتصدق. كل ذلك يضع المؤمن على طريق السلامة طوال العام، نتيجة التدريب القاسي بعض الشيء، الذي فرضه الله على المسلم لخيره وفلاحه”.

وتابع المفتي دريان “أيها المسلمون، أيها اللبنانيون: هناك فرق كبير بين الجوع والتجويع.. يكون الجوع في شهر رمضان بقرار ذاتي تعففي، محبة لله وتقربا إليه، واستجابة لأمره. ويكون لمدة محددة.

أما التجويع، فإنه يكون نتيجة سياسات فاشلة، وحكم فاسد، ونتيجة استهتار بحقوق الإنسان والمواطن.

الصيام جوع إلى محبة الله. وهو جوع في محبة الله. أما الحرمان التجويعي، فهو ترجمة للفساد، وهو نتيجة من نتائج السرقة والنهب، وأكل أموال الناس بالباطل.

إن حقوق الناس هي ودائع مقدسة في ذمة السلطة. وفي مقدمة هذه الحقوق، حق الحياة، وحق الكرامة. والله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم “ولقد كرمنا بني آدم”. فمن أنتم حتى تنتهكوا هذا الحق الإلهي؟ ومن أنتم حتى تعيثوا في الأرض فسادا واستغلالا للحقوق الشخصية، وللحقوق العامة للمواطنين؟

لقد حولتم لبنان بفسادكم من دولة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، إلى دولة تعاني الجوع والخوف والحرمان. بددتم أموال الناس ومدخراتهم، وأسرفتم في الفساد وسوء الإدارة، حتى عمت المجاعة بين اللبنانيين، فيما أنتم تعانون التخمة. والإسراف في أكل المال الحرام.

من أجل ذلك، كان طبيعيا أن يفقد الإنسان اللبناني ثقته بأهل السلطة الفاسدة، الذين دفعوا لبنان إلى الهاوية، وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعا.

لقد هبط لبنان نتيجة فسادهم إلى الدرك الأسفل من الانهيار، وهو يصنف اليوم بين آخر دول العالم، نتيجة سوء الإدارة وفساد الحكم، وتعطيل الضمير الوطني والإنساني.

حبذا لو يصومون يوما واحدا عن الفساد وقول الزور، ليمنحوا لبنان فرصة لتنشق الهواء الأخوي النظيف والمفعم بالأخوة الصادقة. فلبنان يكون مع إخوانه العرب أو لا يكون. هكذا نصت وثيقة الوفاق الوطني، وهكذا نص الدستور”.

أضاف “لكن، رغم كل الفساد المستشري، ورغم كل التعثر والفشل، فإننا لن نيأس، ولن نستسلم لتجويع الفاسدين، ولكننا سوف نقبل على طاعة الله رب العالمين، مصلين صائمين، واثقين من رحمته التي وسعت كل شيء. وسوف نتمتع بالجوع الرمضاني لساعات معدودة، آملين من الله سبحانه وتعالى أن يستجيب لدعائنا حتى نتخلص من هذه الزمرة الفاسدة، التي أدى فسادها إلى الحرمان، وإلى المجاعة. لقد حرمت هذه الزمرة لبنان من دفء أخوته العربية، بما ارتكبت في حق هذه الأخوة من انتهاكات سياسية، ومن تجاوزات لا أخلاقية، يندى لها الجبين خجلا. ذلك أن أقل ما تفرضه وشائج الأخوة هو الوفاء لهذه الأخوة، وعدم الإساءة إليها، وعدم توجيه الطعنات إليها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. ولكن من المؤلم جدا أن المسيئين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، مستخفين بعقول الناس، وهم في طغيانهم يعمهون”.

واستطرد المفتي دريان “أيها المسلمون، أيها اللبنانيون إن مناسباتنا الدينية كانت دائما مناسبات للانفتاح على الآخر، الأخ والشقيق والزميل والمواطن، ورفيق العيش المشترك، لكن المصائب التي تتوالى وتتراكم على الجميع، تضع تضامننا الوطني والديني والإنساني في مواضع الضرورة. وهي إن لم تكن – أعني المصائب والنكبات – مناسبات للاحتفاء، فإنها مناسبات للوقوف معا لحفظ ما تبقى من هذا البناء الوطني الشامخ، الذي جمعنا دائما على الخير والتضامن، وعلى وحدة المسار والمصير. فقد قال الشاعر العربي القديم: (إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد).

نعم أيها الإخوة المواطنون، ما كنا نريد أن نكون أو نمضي إلى ما نهانا القرآن الكريم عنه: “كلما دخلت أمة لعنت أختها” . لكن الحاكمين المتحكمين بمصائرنا، ما تركوا لنا سبيلا للسكوت أو غض الطرف. إننا نشهد على تهدم أو تهديم معظم ما بناه اللبنانيون خلال مائة عام أو أكثر. وهم إذ يقومون بذلك بحماس تدميري، يقفون في وجه كل محاولة للإصلاح والتغيير:

– هناك الهدم المشهود لقطاع المصارف، وثروات اللبنانيين فيها، وللعملة الوطنية.

– وهناك الهدم المشهود للجهاز القضائي، وتحويله إلى سيف للاستنساب والتزوير بأيد معروفة.

– وهناك الهدم الفظيع لعلاقات لبنان العربية والدولية، وقبل ذلك وبعده، محاولات بائسة للتعرض لهوية لبنان وانتمائه.

– وهناك العدوان المستمر على الدستور، وعلى شرعيات لبنان الوطنية والعربية والدولية.

– وهناك هدم مبدأ الفصل بين السلطات، بحيث ضاعت المعالم بين الرئاسة والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية ولصالح حزازات شخصية ومصالح سياسية بائسة.

– وهناك الإسقاط الفظيع لحرمات المؤسسة العسكرية وصلاحياتها والأجهزة المسلحة لصالح ميليشيا، بل ميليشيات خاصة ، تأتمر بأوامر الخارج.

– وهناك الانتهاك المستمر بالفساد والاستئثار لموارد الدولة وسلطاتها في المطار والمرفأ، والمعابر الحدودية. وهي ممارسات تتردد جيوش محتلة في ارتكابها.

إن هذه الأمور كلها، التي تستمر كأنما لا نهاية لها، أوقعت الشعب اللبناني، الذي يزداد احتياجا ومجاعة بين خيارين أحلاهما مر: الهجرة إلى أي مكان، ولو كان ثمن ذلك الموت في البحار، أو مصنع المصائب النازلة والمتفاقمة في عزلته عن أشقائه، وعن العالم حتى الموت الزؤام.

أيها المسلمون، أيها المواطنون:

هذه رسالة رمضان، وقد كان رمضان على الدوام داعية رجاء وأمل وغوث. ولذلك، فإن الرسالة التي ينبغي بثها بهذه المناسبة، ذات ثلاث شعب:

الأولى : شعبة التضامن بين اللبنانيين على كل المستويات . وهو تضامن ينبغي أن يتجلى التفافا من حول المؤسسات العاملة في الخير والمساعدة على الأرض اللبنانية . هناك تضامن مشهود مع اللبنانيين من العرب والعالم . وهو تضامن يستمر ما قبل جريمة تفجير المرفأ ، رغم غيظ الجميع ويأسهم من الإصلاح ، بسبب الاستيلاء الغريب ، وبسبب الفساد الفاقع . ليس هناك طرف يريد المساعدة إلا ويحرص على ألا يصل شيء من العون إلى أيدي السلطات الرسمية ، للافتقار إلى الثقة والشفافية ، والحاكمون لا يخجلون ولا يستحيون ، وقد تجمدت قلوبهم ورؤوسهم وضمائرهم . المهم ، أن علينا نحن اللبنانيين ، أن نعنى بمؤسساتنا الخيرية والإنسانية ، فهي الدعامة الباقية للاستقرار والاستمرار . وبخاصة أن الاحتياجات ازدادت واتسعت ، والإمكانات والقدرات إلى تضاؤل ونفاد . يا ويلتاه على دور الأيتام والعجزة ، والمؤسسات التعليمية والمستشفيات ، وجمعيات العائلات ، ومتطوعي ومتطوعات الرأفة والتعاطف والرحمة ، وصناديق الزكاة ، والإعانات الإنسانية!، الحمد لله أنه لا تزال بيننا فئات مقتدرة وقلوبها عامرة بالتعاطف والرحمة . وفي شهر الصوم ، يكون علينا نحن المسلمين ، فتح الأيدي والقلوب والعقول ، لاستقبال نفحات العطاء والأجر من الرحمن الرحيم .

أما الشعبة الثانية أيها الإخوة الأفاضل : فهي شعبة الانتخابات، نعم، هناك سبيل سلمي باق أو مرجو، وعلى اللبنانيين سلوكه من دون تردد . كل اللبنانيين ينبغي أن يذهبوا إلى صناديق الاقتراع . يقول لنا كثيرون : وماذا يفيد ذلك ، والانتخابات قد لا تغير ، وأنا أقول كما قال الله تعالى : “إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون” ، وهؤلاء هم الذين لا يثقون بأنفسهم وبإخوانهم. وأي بديل مهما كان يحصل نتيجة الانتخابات ، أفضل من السلطة القاهرة والفاسدة . ويقول آخرون : لكن معظم المرشحين من الطينة نفسها، ومن منتهزي الفرص. وأنا لا أرى ذلك ، بل الذي أراه أن كثيرين من المرشحين القدامى والجدد ، هم أهل همة وصلاح وإرادة في التغيير . الانتخابات أولا تضاهي في أهميتها شعار : لبنان أولا ، الذي نادينا به جميعا يوما ما . ولا تزال له الأولوية . والأولى القول الآن : إننا محتاجون إلى وطننا في هذه الظروف ، أكبر من حاجة الوطن إلينا ، وعلى أي حال ، لا وطن بدون مواطنين . لكننا نتصور بلدنا وطنا عزيزا بدون متسلطين أو متسلقين ، أو دعاة ميليشيات مسلحة .

إن الشعبة الثالثة مع سبيل الانتخابات التغييرية : هي شعبة المبادرات الوطنية التي لا ينبغي أن تتوقف لجمع كلمة المصابين بهذه السلطة من اللبنانيين ، ومن طريق الحوار الوطني الجامع . وفي الجماعة تظهر أفكار كثيرة ، ومشروعات تشاورية ، لبحث البدائل والسير فيها ، ولمناداة الأشقاء والأصدقاء ، فالتفكير الوطني يجلب التدبير الوطني . هم يريدوننا أن نسكت ونقعد في بيوتنا أو نهاجر ، ونحن لا نريد أن نقوم بهذا أو ذاك . انتهى زمن التسليم وزمان الخوف . وانطلق وعد الثورة على الظالمين والمستبدين والفاسدين . نذهب للانتخابات معا ، ونبادر لإنتاج البدائل معا . هم سلاحهم الفتنة والتخويف ، ونحن سلاحنا الاجتماع والثقة بقدرة اللبنانيين على الإصلاح والإبداع فيه ؛ كما كان شأنهم دائما”.

وأردف المفتي دريان رسالته متوجها الى المسلمين: “يأبى رمضان إلا أن يكون وعدا وعهدا، وميثاقا على الثقة وعلى الخير، وعلى صنع الجديد والمتقدم. أنت تعمل الخير والود في رمضان للغير، لكنك في الحقيقة تعمله لنفسك عند الله وعند الناس.

اللهم إننا ندعوك سبحانك مع قدوم شهر رمضان، شهر استجابة الدعاء أن ترزق أوطاننا السلم والأمن والأمان، وأن تخرجنا من هذه المحن المستعصية، وأن تهب وطننا السكينة والطمأنينة، إنك يا رب العالمين حكيم قدير.

وأسأل الله سبحانه، أن يجعله صوما متقبلا، حافلا بالأعمال الصالحة، وبنعم الله ورضاه. قال تعالى “الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون”. صدق الله العظيم. كل رمضان وأنتم بخير” .

اترك تعليقًا