ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الاحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت، في حضور عدد من المؤمنين.
بعد الإنجيل، ألقى عظة قال فيها: “بعدما ذكرتنا كنيستنا المقدسة في الأحدين الماضيين بأهمية التواضع مع العشار، والتوبة مع الإبن الشاطر، تجعلنا اليوم نفكر في الدينونة الأخيرة، وكيفية الجلوس عن اليمين مع الخراف، مؤكدة لنا أن الملكوت لا يمكن الدخول إليه إلا عبر الآخر، أي عبر أعمال المحبة، إذ لا يكفي أن نتواضع ونتوب، بل علينا أن نترجم حياتنا المسيحية أفعالا. لذلك حدد الآباء القديسون أن يقرأ إنجيل الدينونة بعد قراءة كل من إنجيلي الفريسي والعشار والإبن الشاطر. فمحبة الله التي بررت العشار وألهمته صلاته، وقبلت الإبن الأصغر الضال محفزة إياه على العودة، ستكون مقياسا يميز بين الخراف والجداء في نهاية هذا العالم الفاسد، عند الحضور الثاني المجيد للمسيح. يبدو واضحا في قراءة إنجيل الدينونة أن المقياس هو المحبة، لكننا نلاحظ أيضا ذكر إخوة المسيح الذين وحد نفسه بهم قائلا: “بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي قد فعلتموه” (مت 25: 40). عندما طلبت العذراء أم يسوع والتلاميذ رؤية يسوع والتحدث إليه، قال له واحد: “هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك” أجاب يسوع: “من هي أمي ومن هم إخوتي؟”، ثم مد يده نحو تلاميذه وقال: “ها أمي وإخوتي، لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي” (مت 12: 49-50). إذا، إخوة المسيح هم العائشون بحسب وصاياه، وهؤلاء يصبحون “المباركين” عن يمين الآب”.
أضاف: “إلى ذلك، نجد في الكتاب المقدس وفي أقوال الآباء القديسين أن التواضع هو “حلة الألوهة”، وأن مجد المسيح هو الصليب. فالصليب هو أبلغ تعبير عن محبة الله للإنسان، لأن الله ليس عنده تغيير ولا تبديل، لا زيادة ولا نقصان. ما من تناقض عنده بين صفته كضابط الكل، وتواضعه الأقصى، بين العدل والمحبة. هذه الأمور تتناقض بالنسبة إلينا، نحن الخاضعين للأهواء والمشتتين بأمور الدنيا. لذا، عندما يأتي المسيح بمجده، سيكون حضوره رهيبا ومبهجا في الوقت عينه. سيكون مجد الصليب وعدالة المحبة وعظمة التواضع. فالذين عاشوا سر الصليب في حياتهم الشخصية، وبالتواضع أفسحوا قلوبهم لتسكن المحبة فيها، سوف يبتهجون في حضور المسيح، وسيتحقق ما تشتاق إليه نفوسهم. أما الآخرون، الذين أهملوا وصايا الله بوقاحة، وأطاعوا نزعة الحقد والكبرياء والأهواء الأخرى، فسيتم فيهم العكس. سوف يجدون حضور المسيح رهيبا، ويحترقون بنار المحبة التي لم يؤمنوا بها. الأولون هم إخوة للمسيح، بينما يقول الرب للآخرين: “إني لا أعرفكم”.
وتابع: “يدعى إخوة المسيح في هذه الحياة “صغارا” بين الناس، وهم الذين يحتملون أحزانا مختلفة، كالفقراء والمرضى والمظلومين والمقهورين والمقموعين… المسيح يضع نفسه في آخر درجة من السلم التي خلقتها قساوة الناس، مبطلا كافة ألوان التمييز بين البشر. الفائق على السماوات يدعو آخر الناس في الأرض إخوة له، وينظر إلى أي خدمة تقدم لهم كأنها تقدم له شخصيا. بهذه الطريقة يسترجع وحدة الجنس البشري، يدل بوضوح كم أن العنصرية خطأ فادح، وكم هي خطيئة فظيعة، وأعني بالعنصرية التمييز بين الناس تكريما أو إحتقارا، إستنادا إلى الموطن واللون والجنس والغنى والدين. هذا كله له أهمية خاصة في أيامنا، بسبب صعود الحركات التكفيرية والعنصرية، والحروب العبثية التي تتأجج بداعي الفوارق الدينية أو العرقية أو غيرها، وتخلف الضحايا والأضرار، وتهدد الاستقرار في العالم. فإذا كان آخر الناس إخوة لملك السماوات، من تراه يستطيع المفاخرة بأنه أرفع شأنا منهم؟”
وشدد على أن “الإنسانية توحد البشر رغم كل الفوارق بينهم، ويمكننا أن نعيش وحدة الجنس البشري بخروجنا من محبة الذات، أي من الإنشغال الكامل بنفوسنا وبمتطلبات جسدنا. فوصية “أحبب قريبك كنفسك” تعبر عن هذه الوحدة، وتدل على طريقة عيشها، ويرى فيها القديسون وحدة الجنس البشري. هكذا نحب الآخرين كما نحب أنفسنا. الذين وصلوا إلى خبرة هذه الوحدة، لا يكتفون بخدمة إخوة المسيح الصغار، بل يشعرون بوحدة الحال معهم، فيحملون ثقل أحزانهم كله، تماما كما قال الرسول بولس: “من يمرض ولا أمرض أنا؟” (كو 2: 11-29). هؤلاء الناس هم البركة الحقيقية للمسكونة، وهم أيضا “مباركو الآب” الذين سوف يرثون ملكوته”.
ورأى أن “إنجيل الدينونة الذي سمعناه اليوم يجب أن يهز ضمائر مسؤولي هذا البلد وكل ذي سلطة ومال يتكبر ويتجبر، يكره ويظلم، ولا يرى إلا نفسه ومصالحه. وكأننا اليوم بالمسيح يقول لهؤلاء بلسان إخوته اللبنانيين المعذبين والمقهورين والمشردين: “ظلمتموني وأشحتم بوجهكم عني، فجرتموني وتعملون على طمس الحقيقة وإعاقة العدالة… نهبتم عرق أتعابي الذي جمعته في سنوات… منعتم عني الدواء… جوعتم أطفالي الرضع… يتمتموني ولم يرف لكم جفن… أبكيتموني… هجرتموني…”. لبنان مليء بإخوة يسوع الصغار، الذين أهملهم المسؤولون، وتغاضوا عن حاجاتهم الضرورية، ولم يلتفتوا إلى معاناتهم اليومية في ظل انهيار شامل خلف جياعا وعراة ومشردين وعاطلين عن العمل. ويل لكل من سمع بكاء طفل أو تنهد أم ولم يحرك ساكنا. ويل لكل من لا يزال يثقل كاهل المواطن بالأسعار المتصاعدة والسلع المفقودة والضرائب المجحفة بحق إنسان بلدي المقهور. الدينونة العادلة آتية، على أمل أن تبدأ بوادرها في أيار المقبل، في صناديق الاقتراع، حين يجب أن يعبر اللبنانيون عن قرفهم ورفضهم وغضبهم بجرأة ودون خوف من ترهيب أو تهديد، فيدرك المرفوضون والمقصون حكم الشعب قبل الوقوف أمام الديان العادل في اليوم الأخير، عل النتيجة ترضي شعبنا الحبيب فيشعر ببرودة القلب والروح ويتنفس الصعداء قليلا. وهذا يتوقف على شعورهم بالمسؤولية وقيامهم بواجبهم الوطني ومحاسبة كل من أساء وقصر”.
وقال: “أما من جهة التمييز والعنصرية، فنأمل أن نرى وجوها نسائية تلمع في المجلس النيابي العتيد والحكومات المقبلة، لأننا عاينا ما فعله الذكور بهذا الوطن. إن المرأة، الأم، والأخت، والإبنة، والأرملة، تعرف تمام المعرفة ما تعني المحبة الحقيقية، والعطاء والتضحية، وهي لا يمكنها أن تفقد حنانها وإحساسها، وحساسيتها تجاه ما يحيط بها. لذا، فإن السيدات، بالإضافة إلى علمهن وثقافتهن وخبرتهن وصبرهن، يعملن العقل المجبول بالعاطفة، ولهذا ينجحن في غالبية الأحيان حيث يفشل الرجال الذين يهتمون أولا بالسلطة وممارستها. إن القسوة والعناد والتعنت وشن الحروب، وآخرها ما نشهده في أوكرانيا، من شيم الرجال، فيما المرأة هي صانعة سلام. من هنا ضرورة مشاركة النساء في تحمل المسؤولية وبناء الدولة. وظهر دور المرأة الإصلاحي في مختلف بلدان العالم. ألم يحن الوقت لإعطائها الفرصة في لبنان؟ إن ثقافة بلادنا هي الانفتاح، ويجب ألا تتحكم الجماعات المنغلقة على نفسها وعلى ذكوريتها بمقدرات البلد وشؤون الناس. لقد مارست الطغمات الحاكمة في بلدنا التمييز بشتى أنواعه ضد المرأة وضد الشعب، وقد آن الأوان لكي يقوم الشعب بفرز الخراف عن الجداء”.
وختم: “دعوتنا اليوم، في أحد الدينونة، أن نحب الجميع، ونسعى مع كل إنسان لبلوغ الخلاص المرجو، حتى نصرخ معا، في نهاية رحلة الصوم: “المسيح قام… حقا قام”.