ميشال أبو نجم
بخلاف التأكيدات القائلة إن باريس تخلت عن مبادرتها في لبنان، وإن وزير الخارجية جان إيف لو دريان «دفنها» في بيروت، خلال لقاءات قصيرة جداً وصفت بـ«البروتوكولية» مع رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي ورئيس الوزراء المكلف بعيداً عن أي مسعى توفيقي لردم الهوة بين الأطراف السياسية المتناحرة التي حالت دون تشكيل حكومة جديدة، وبالتالي أعاقت مهمة إنقاذ البلاد من مزيد من التدهور، فإن مصادر فرنسية تقول العكس، وتؤكد أن فرنسا «لم تتخلَّ» عن لبنان، وما زالت ماضية في متابعة أوضاعه، ولكن «وفق منهج مختلف» عما طرحته في مرحلة أولى.
والمقصود أن باريس التي فقدت صبرها إزاء طبقة سياسية تدفع لبنان إلى «الانتحار»، وفق كلمة لو دريان في بيروت، عمدت -في خطوة أولى- إلى فرض قيود على دخول سياسيين إلى أراضيها، إن بسبب إعاقتهم تشكيل الحكومة أو بسبب فسادهم. وعلى الرغم من أن الجانب الفرنسي لم يكشف عن الأسماء المعنية لأسباب «تكتيكية»، بحيث يبقى سيف العقوبات مسلطاً على الأطراف كافة، فإنها مستمرة في السعي لتغليظ هراوة العقوبات، وذلك عن طريقين: فرض عقوبات إضافية من جهة، والاستمرار من جهة أخرى في دفع جهود الاتحاد الأوروبي إلى الأمام من أجل التوافق على عقوبات أوروبية جماعية، على الرغم من التردد الذي أبدته بعض الأطراف داخل الاتحاد.
وأمس، أكدت الخارجية الفرنسية، في سياق مؤتمرها الصحافي الإلكتروني، إنه إذا استمرت العراقيل الحائلة دون ولادة الحكومة العتيدة، فإن العقوبات على المستوى الفرنسي «سوف تشدد وتتسع». واستعادت الناطقة باسم الخارجية تصريحات «وزير» الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل، عقب اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين في بروكسل أول من أمس، مشيرة إلى أن الاتحاد «يعمل على (بلورة) الأدوات التي تمكنه في ممارسة ضغوط (إفرادية) على المسؤولين اللبنانيين الذين يعيقون الخروج من الطريق المسدود الراهن».
وللتذكير، فإن بوريل أعلن ما حرفيته: «نحن نعمل على سياسة العصا والجزرة، وكل الخيارات تخضع للبحث من أجل ممارسة الضغوط على أطراف الطبقة السياسية التي تمنع الخروج من المأزق». وأضاف أن الوزير لو دريان الذي بقي في بيروت يومين الأسبوع الماضي «أطلع (نظراءه) على الأوضاع» في لبنان، وهو ما كان قد أشار إليه خلال لقائه الصحافي في العاصمة اللبنانية قبل مغادرتها عائداً إلى باريس.
وتشير أوساط متابعة للجهود الفرنسية أن في جعبة باريس الكثير مما هي قادرة على القيام به من الناحية «التقنية»، كتشديد الخناق على السياسيين الذين تحملهم مسؤولية الإطاحة بمبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون، وبالجهود الكبيرة التي بذلتها فرنسا منذ انفجاري مرفأ بيروت. وتعد هذه الأوساط أن «المعضلة ليست تقنية، بل سياسية». فباريس ما زالت تعد أن التلويح بالعقوبات إذا أصبحت جماعية، إن على مستوى الاتحاد الأوروبي ككل أو على مستوى عدة بلدان أوروبية معنية بالملف اللبناني، في حال استمرت الصعوبات في التوصل إلى الإجماع المطلوب، من شأنها أن تشكل ورقة ضاغطة موجعة للسياسيين الذين قد يقع عليهم سيف العقوبات.
وبحسب مصرفي واسع الاطلاع، فإن فرض عقوبات مثل تجميد الأرصدة والممتلكات (شقق، منازل،… إلخ» في بلد أوروبي من شأنه أن يغلق أبواب المصارف الأوروبية كلها بوجه الأشخاص المعنيين، ويفتح في المقابل بوجههم أبواب المساءلة المفضية إلى المحاكم، ومنها الفرنسية. وعلى سبيل المثال، فإن قانون «الممتلكات غير المشروعة» المعمول به في فرنسا الذي طال كثيراً من السياسيين الأفارقة يمكن أن يطبق في حالة السياسيين اللبنانيين، كما طبق بحق نائب الرئيس السوري الأسبق رفعت الأسد الذي جمدت أرصدته وممتلكاته الفرنسية كافة. يضاف إلى ذلك أن وضع اسم سياسي لبناني على ما يمكن تسميته «اللائحة السوداء» يعني «إحراقه»، وصعوبة إخراجه منها. كذلك فإن إغلاق أبواب أوروبا أمام السياسيين المعنيين، إن تعطيلاً أو فساداً، سوف يعطل مستقبلهم السياسي، ويسد في وجههم فرص الوصول إلى الحقائب الوزارية أو أي منصب رسمي يتطلب التعامل مع الخارج.
بيد أن الوصول إلى هذه المرحلة يفترض العبور من التهديد إلى التنفيذ. وحتى اليوم، لم يتم التعرف على الأساس القانوني الذي يمكن الركون إليه لفرض عقوبات على سياسيين بحجة «تعطيل» تشكيل حكومة. فإذا كانت تهمة «الفساد» تعد جريمة يعاقب عليها القانون، فإن «تعطيل ولادة حكومة» يدخل في باب العمل السياسي، ولذا يتعين على الفرنسيين والأوروبيين البحث عن شيء ينهض على أساس قانوني، ولا يمكن دحضه أمام المحاكم «الوطنية» أو الأوروبية. ومن هنا، فإن المناقشات الدائرة داخل الاتحاد الأوروبي التي بدأت في 23 آذار الماضي يمكن أن تمتد لأسابيع إضافية، قبل أن ترسو على تفاهمات قابلة للتنفيذ.
يبقى أن باريس التي غيرت مقاربتها تستخدم ورقة موازية للعقوبات، وهي الدفع لبروز نخب سياسية جديدة، وهذا معنى لقاء لو دريان المطول مع منظمات من المجتمع المدني وشخصيات حزبية معارضة، ورهانه على الانتخابات المقبلة لولادتها. والحال أن هذا الرهان، كما تعترف مصادر سياسية في باريس، محفوف بالمخاطر بسبب التركيبة السياسية اللبنانية الطائفية – الحزبية، وقدرة الأحزاب الممسكة بالوضع على إعادة إنتاج نفسها، كما فعلت منذ استقلال لبنان. والخلاصة أن رهاني باريس «أي العقوبات والانتخابات» صائبان نظرياً، لكن إشكالية التنفيذ موضوع مختلف. وفي أي حال، فإن مصير الأزمة اللبنانية لا يمكن فصله عن التطورات الإقليمية، وحصره بخلافات السياسيين الداخلية لا يكفي للخروج من الأزمة.
“الشرق الأوسط”