46 عاما مرت على اشتعال بوسطة عين الرمانة التي اشعلت معها حربا لبنانية لم تكن “أهلية” بقدر ما كانت حرب تصفية الحسابات الفلسطينية مع العالم العربي والمجتمع الدولي في لبنان، الذي وجد فيه العرب والعالم المخرج الأفضل، لإنهاء الصراع الدامي والمزمن مع اسرائيل بأقل الأثمان الممكنة. ذلك أن اتفاق القاهرة المشؤوم لم يكلف الدول العربية إلا بعض الدولارات والكثير من شحنات السلاح لتدعيم مواقع الأفرقاء اللبنانيين المتناحرين على الحلبة الوطنية ليرتاحوا من هَم القضية المفترض أنها مركزية في العالم العربي.
أمام هذه الصورة، قد يقول قائل إن لبنان اندفع إلى الحرب من حيث لا يريد أبناؤه، فيما قد يعتبر آخرون أن قرارا دوليا اتخذ لتكريس معادلة لبنان الوطن البديل للفلسطينيين، وهو ما لم يكن السكوت عنه ممكننا للأسباب السياسية المعروفة.تعددت الأسباب والحرب واحدة… ستبقى نيرانها وقذائفها وضحاياها ماثلة بقوة في ذاكرة شعبية باتت تتقن تعداد الضحايا والشهداء… قبل العودة إلى الحياة ونفض غبار البارود عن البلاد والعباد. غير أن الأهم يكمن في أن مرور 46 عاما على ذلك اليوم الأسود من رزنامة لبنانية اعتادت الاتشاح بسواد الغياب، من شأنه أن يرسم معادلة جديدة آن الأوان للسير بهديها لنقل البلاد من وضع صندوق بريد الرسائل الدولية بين كبار القوم في هذا العالم، إلى الدولة السيدة الحرة القادرة على إدارة شؤونها بنفسها. حان الوقت لاستخلاص العبر من مرارة كأس 13 نيسان وما سبقه ولحقه من أحداث أودت بحياة عدد من قادة الرأي في البلاد، ويتمتها من القامات والهامات الوطنية التي تحتاجها مرحلة النهوض الطويلة التي لا تزال تجرجر ذيولها منذ أكثر من ثلاثة عقود.
وقد يكون تذكار إنطلاق الحرب اللبنانية هذا العام تحديدا، الوقت الأنسب لاتخاذ القرار الجريء في إطلاق ورشة استخلاص العبر من سني الحرب. كيف لا، والمشهد نفسه لا يزال يتكرر برتابة صارت مملة فعلا: زعماء الحرب، وحملة السلاح فرضوا أنفسهم أبطال مرحلة السلم، وكرسوا مواقعهم في المشهد السياسي بشكل يمنع التغيير من أن يمس بما يعتبرونها مكتسبات لا ينتهي مفعولها إلا… مع التخلي عن الموقع والمنصب والمركز وهذا أمر لا يفكر به أصحاب العلاقة حتى. بدليل أنهم لا يتوانون ولا يجدون موانع أخلاقية أو شخصية أمام الغوص في دهاليز رسم قوانين انتخابية ليست إلا “إبرة مورفين” لإسكات الناس التواقين إلى التغيير.
غير أن عنصرا جديدا دخل في العامين الأخيرين إلى هذه الصورة لا لشيء إلا ليزيدها قتامة وسوادا: إنه مشهد الناس يستعطون مدخراتهم ويتحسرون على جنى العمر، ويتاقتلون في سبيل الحصول على الزيت وحليب الأطفال والأرز…
هذا كله يدل إلى أن أحدا من زعماء الحرب الذين يفاخرون بما يعتبرونه نضالا ودفاعا عن الوطن والكيان لم يستخلص العبر من 13 نيسان، سبقهم الناس إلى ذلك بأشواط وأشواط، بدليل ما جرى في 17 تشرين 2019. في لحظات انتفت الفوارق والمتاريس التي نصبها… زعماء الحرب أنفسهم ليحكموا قبضتهم على الناس في زمن السلم. غير أن كثيرين ممن لم يستسيغوا المشهد اللبناني الجامع النادر سارعوا إلى طمسه وتجازوه والقفز فوقه لأنهم أحسوا “بالسخن”, لكن فاتهم الأهم… فاتهم أن التعامي المتعمد عن الوقائع لا يلغيها من تاريخ الشعوب. لذلك وبدلا من الركون إلى سياسة النعامة ودفن الرؤوس في الرمال السياسية المتحركة أحيانا، قد يكون من الأجدى الركون إلى مراجعة ذاتية لأداء ثبت فشله و”نهب” من أعمارنا وأيامنا أحلاها، تمهيدا للإنسحاب من المشهد للانتقال إلى مرحلة ما بعد 13 نيسان. علّ البوسطة تقف أخيرا في محطة تستحق تضحيات اللبنانيين، لا سيما منهم ضحايا… 13 نيسان وأبطال 17 تشرين…