الخبر بالصوت

نقولا ناصيف

ليس صعباً تفسير عبارة «حكي تركي» في ردّ الرئيس نبيه برّي على الرئيس حسان دياب. إمّا ما قاله رئيس الحكومة المستقيلة عن تصريف أعمالها هو لزوم ما لا يلزم، وإمّا قيل كي لا يُفهم أبداً.

في الساعات الثماني والاربعين التالية لفشل الاجتماع الثامن عشر بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري في 22 آذار، وأدخلهما في قطيعة جديدة ممدِّدة تعثر تأليف الحكومة الى أمد غير معلوم، سارع رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب في 24 آذار الى اتخاذ موقف غير مسبوق، أسوأ ما فيه أن أياً من أسلافه لم يُقدم عليه، مفتقراً الى التعقل في احسن الاحوال، ومحاولاً توريط مجلس النواب في مشكلة ليست من صنعه، ومتنصّلاً من مسؤولية ملزمة لحكومته المستقيلة دونما حاجتها الى غطاء سياسي، كي يتحدّث عن جدل دستوري حيال مفهوم تصريف الاعمال لا وجود له. طالب دياب مجلس النواب بتفسير المفسَّر في الفقرة الثانية في المادة 64 من الدستور: نطاق تصريف الاعمال لحكومة مستقيلة في ما يقتضي أن تفعله أو لا تفعله، وفي الوقت نفسه إشراك البرلمان في كل ما تُقدم عليه هو في صلب مسؤولياتها الحصرية.البارحة، على نحو رمى الى تصويب وجهة المشكلة، ردّ الرئيس نبيه برّي على طلب دياب بأن بسَّط له الجواب: «حكي تركي».أشبه بمَن لا يريد أن يُفهِم، ولا يريد أن يفهم ما هو قائم.أضاف برّي لدياب أن الدستور واضح في تحديد اختصاص تصريف الاعمال في نطاقها الضيق الذي لا يحتاج الى تفسير، ويقضي بـ«تسيير الامور الضرورية التي تفيد الشعب أو تدفع الضرر».لم يؤتَ في دستور ما قبل اتفاق الطائف على تصريف الاعمال. بيد أنه اتخذ في ممارسته كعُرف على أنه أحد القواعد الدستورية المعتمدة في أنظمة دول شتى، في المرحلة الفاصلة ما بين استقالة حكومة وتأليف أخرى. في دستور ما بعد اتفاق الطائف كُرِّس العرف نصاً، وبات يصدر في بيان عن رئيس الجمهورية يعلن قبول استقالة الحكومة وتكليفها بتصريف الاعمال، في انتظار اكتمال الدورة الدستورية لتأليف حكومة جديدة، بدءاً بإصدار مرسوم قبول استقالة الحكومة السابقة.

منذ اتفاق الطائف لم تُثر مرة مسألة غموض يكتنف الفقرة الثانية في المادة 64 على نحو ما قاله دياب. التزمت الحكومات المستقيلة المتعاقبة بمقتضيات تصريف الاعمال بالامتناع عن انعقاد جلسات مجلس الوزراء، والاخذ باكثر من اجتهاد لمجلس شورى الدولة في تحديده نطاق تصريف الاعمال. كانت ثمة استثناءات نادرة، قبل ان يتوسّع تفسير الموافقات الاستثنائية كي تحل محل القرارات المتخذة في مجلس الوزراء الملتئم. موافقات استثنائية كهذه افتتحتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في المرحلة الطويلة بعد استقالتها ما بين عامي 2013 و2014.لم يكن دياب أقل التزاماً بالمقتضيات تلك، عندما راح يعقد اجتماعات لوزراء لا يزيد عددهم على خمسة في أقصى الحالات، لئلا يُستشم انها تقترب من تبرير انعقاد مجلس الوزراء.في 11 كانون الاول 2020، حدث التحوّل المهم والمفاجئ في مسار دياب عندما استقبل في السرايا الحريري، مؤازراً إياه بعدما ادّعى عليه المحقق العدلي السابق فادي صوان في انفجار مرفأ بيروت. مذذاك أصبح الرجل في المقلب الآخر من الصورة التي رسمها لنفسه مذ ترأس حكومته مطلع عام 2020: المختلف، المتعاون، المناوئ لأسلافه الذين ألّبوا الشارع السنّي عليه واضطهدوه وشهّروا به في الداخل والخارج على أنه صنيعة حزب الله. منذ استقباله الحريري الذي كان أول من نبذه لمجرد أنه خلفه، أضحى العضو الخامس غير الرسمي في نادي رؤساء الحكومات السابقين. تردّد أنه قال لخلفه الرئيس المكلف أنه يأمل الانضمام الى لائحته في بيروت في الانتخابات النيابية المقبلة. لم يعد يصغي في السرايا سوى الى الأمين العام لمجلس الوزراء محمود مكّية، عيون الحريري وآذانه وعقله المدبر فيها. قلّت اجتماعاته برئيس الجمهورية، وبات أحد عدّة الشغل المعوَّل عليها لممارسة ضغوط على عون كي يتخلى عن شروطه لتأليف الحكومة. أكثر في إعلان رفضه انعقاد جلسات مجلس الوزراء وتفعيل عمل حكومته المستقيلة. كلاهما لا يعنيان في أي حال تعويم حكومته، بعدما أوصدت إصلاحات اتفاق الطائف باب تراجع رئيس حكومة مستقيلة عن استقالته كي يستعيد موقعه ما ان يصدر بيان تكليف رئيس خلف له، نشأ عن اختيار الغالبية النيابية مرشحها لترؤس الحكومة.منذ أن فقد رئيس الجمهورية الصلاحية المتاحة له في دستور ما قبل اتفاق الطائف، بتسمية الرئيس المكلف وحمله على الاعتذار عن تأليف الحكومة، وقع الانفصال التام بين صلاحيتين كانتا متلازمتين متكاملتين: رئيس الجمهورية يقبل استقالة رئيس الحكومة، ويقبل ايضاً تراجعه عنها، ما دام القاسم المشترك مع هذين الاجراءين انه هو مَن يسمّي الرئيس المكلف بتأليف حكومة جديدة. لم يعد شيء من ذلك صالحاً الآن.اما الكلام غير التركي، المحدِّد نطاق تصريف اعمال حكومة مستقيلة، فأورده مجلس شورى الدولة في قرار رقمه 341/79 مؤرّخ في 19 تشرين الثاني 1979، بتأكيد حق الحكومة المستقيلة في ممارسة صلاحياتها الكاملة في المواضيع العاجلة، أو تلك المرتبطة بمهل دستورية وقانونية مقيِّدة، كحال إقرار الموازنة وإجراء انتخابات نيابية فرعية في الظرف الراهن.

في معرض مناقشته مراجعة طعن تقدّم بها عريف في الشرطة القضائية هو عجاج جرجس ياغي في 7 تموز 1975، لإبطال قرار اتخذه في حقه وزير الداخلية بهيج تقي الدين في 29 ايار 1975، لمخالفته القانون وتجاوز حدّ السلطة وصلاحية تصريف الاعمال، بأن أحاله الى مجلس تأديبي بانقضاء ثلاثة أيام على استقالة الحكومة في 26 ايار 1975، فيما لا يدخل القرار المطعون فيه في صلب تصريف الاعمال المنوط بحكومة مستقيلة، ولا في عداد الاعمال التصرّفية المحظرة عليها. كان موقف المدعى عليها، الدولة اللبنانية، أن الاستقالة وقبولها غير ثابتين في تاريخ اصدار الوزير القرار، فضلاً عن أن تعيين هيئة تأديبية من الاعمال العادية المرعية في تصريف الاعمال، وان المعوّل عليه بحسب الدستور مرسوم قبول الاستقالة.في قرار مجلس الشورى الذي اتخذته هيئة ترأسها القاضي جوزف شاوول وضمّت المستشارين اندره صادر وعزت الايوبي:«يجب التفريق في تحديد نطاق الاعمال الادارية (Acte de gestion) والاعمال التصرّفية (Acte de disposition) ، وفي الاعمال التصرّفية بين العادي منها والاستثنائي.وبما ان الاعمال العادية تنحصر مبدئياً في الاعمال الادارية، وهي الاعمال اليومية التي يعود الى السلطات الادارية اتمامها، ويتعلق اجراؤها في الغالب بموافقة هذه السلطات كتعيين أو نقل الموظفين وتصريف الاعمال الفردية التي لا يمارس عليها الوزراء سوى إشراف محدود.وبما أن الحكومة المستقيلة تستمر والحال هذه، بصورة مشروعة، في ممارسة قسط وافر من صلاحياتها حتى تتسلم الحكومة اللاحقة مهماتها، لأن الاعمال العادية تشمل كل الاعمال التي ترتدي طابع العجلة، وسائر الاعمال التي لا تنطوي على خيار سياسي، ولا تثير صعوبة خاصة. بعبارة اخرى، تستطيع الحكومة المستقيلة اتخاذ التدابير التي لا تثير مراقبة الحكومة ومسؤوليتها امام المجلس النيابي.وبما ان الاعمال التصرّفية العادية هي التي ترمي الى احداث أعباء جديدة، أو التصرّف باعتمادات مهمة، أو إدخال تغيير جوهري على سير المصالح العامة وفي اوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت طائلة المسؤولية الوزارية.وبما ان هذه الاعمال التصرّفية تخرج في طبيعتها عن نطاق الاعمال العادية، ولا يجوز لحكومة مستقيلة من حيث المبدأ ان تقوم بها، لأن من شأن هذه الاعمال إلزام مسؤولية الحكومة امام مجلس النواب، وان السماح لحكومة مستقيلة غير مسؤولة بإجرائها يؤدي الى ضياع المسؤولية عنها، خصوصاً اذا كانت التدابير المتخذة في شأنها قابلة للنفاذ من دون ان يمارس مجلس النواب رقابته عليها.وبما انه في ما يتعلق بالاعمال التي تتسم بطابع العجلة، حتى تلك التي تدخل في عداد الاعمال التصرّفية والتي يقتضي اتخاذ تدابير ضرورية تفرضها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام وامن الدولة الخارجي او الداخلي، وكذلك الاعمال الادارية التي يجب اجراؤها في مهل محددة بالقوانين تحت طائلة السقوط والإبطال، فإن الحكومة تستعيد كامل صلاحياتها التي كانت تمارسها قبل الاستقالة تحت إشراف القضاء ومراقبته».

“الأخبار”

اترك تعليقًا