في وقت تراءى لبعضهم ان مفاجأة إيجابية قد تقف وراء اعلان قصر بعبدا بعد ظهر امس ان رئيس الجمهورية ميشال عون سيوجه الى اللبنانيين كلمة تتصل بتحمله المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه لانهاء نمط التعطيل لتشكيل الحكومة الانقاذية التي أجهض تركيبتها من الأساس، اذ بالرئيس عون يفجر الخطوة التصعيدية الأسوأ اطلاقا في توقيتها ومضمونها وتداعياتها، واضعاً الرئيس المكلف سعد الحريري بين خياري التسليم بشروطه او الإقصاء من خلال دفعه للاعتذار بما لا يبقي شكاً في انه يخوض حرباً ضده ويفتح البلاد على مزيد من الانهيارات المخيفة. وجاء رد الرئيس الحريري بما يوازي الهجوم الذي تعرض له مخيّراً عون بين مناقشة التشكيلة التي قدمها له او اختصار الام اللبنانيين بإتاحة المجال امام انتخابات رئاسية مبكرة.
تجاهل الرئيس عون التبعات الكبرى التي يتحملها وعهده وفريقه، واختار لحظة اتساع الحرائق المالية والاقتصادية والاجتماعية المنذرة بكارثة لا سابق لها، واطلق “حربه الاقصائية” على الرئيس سعد الحريري ليتنصل من تبعات الانهيار أولا، وليحمّل الحريري والآخرين تبعات الانهيار ثانيا، وليعلنها مباشرة ومن دون مواربة هذه المرة انه يزمع الانقلاب على الاستشارات النيابية من خلال دفع الحريري عبر شرطين تعجيزيين الى الاعتذار مع كل ما يرتبه ذلك من تعريض البلاد لازمة سياسية طوائفية جديدة لا تحتملها اطلاقاً. وإذا كان من نافل القول ان هذه الخطوة التصعيدية ستؤدي الى تفاقم اخطر في الواقعين المالي والاجتماعي، فان الأسوأ سياسيا ودستوريا ان عون بإصداره “مذكرة جلب” للحريري لحمله على تشكيل حكومة كما يشترطها، او إجباره على الاعتذار، إنما يمحو بشطبة قلم 16 اجتماعا عقدت بينه وبين الحريري. بذلك فتح العهد البلاد على أسوأ الاحتمالات والتداعيات وفجّر مواجهة غير مسبوقة بين رئيس للجمهورية ورئيس مكلف تشكيل الحكومة العتيدة.
في كلمته التي لم تستغرق تلاوتها سوى اربع دقائق، برر عون اطلاق الحرب على الحريري بقوله “آثرت الصمت إفساحاً في المجال أمام المعالجات على مختلف المستويات، وتفادياً لأيّ حدث من جرّاء التجاذبات والانقسامات الحادّة في المواقف السياسيّة وانهيار المنظومة الاقتصاديّة والماليّة نتيجة سياسات خاطئة لعقود خلت. إلا أنّي سلكت درب المساءلة الوعرة في ظلّ نظام تجذّر فيه الفساد السلطوي والمؤسساتي واستشرى، وارتفعت أمامي كلّ المتاريس، وأنتم تعرفون أنّي ما اعتدت الإذعان والرضوخ دفاعاً عن كرامتكم وعيشكم الحر الكريم”.
ثم اضاف “أمّا اليوم، ومن منطلق قسمي، وبعدما تقدّم رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري بعناوين مسوّدة حكومية لا تلبي الحد الأدنى من التوازن الوطني والميثاقية، ما أدخل البلاد في نفق التعطيل، فإني أدعوه إلى قصر بعبدا، من أجل التأليف الفوري للحكومة بالاتفاق معي، وفق الآليّة والمعايير الدستوريّة المعتمدة في تأليف الحكومات من دون تحجج أو تأخير. أما في حال وجد نفسه في عجز عن التأليف وترؤس حكومة إنقاذ وطني تتصدّى للأوضاع الخطيرة التي تعاني منها البلاد والعباد، فعليه ان يفسح في المجال أمام كل قادر على التأليف. كلّ ذلك من منطلق مسؤوليّته الدستوريّة وضميره الإنساني والوطني، ذلك أنّ مثل هذه المعاناة الشعبيّة لن ترحم المسؤول عن التعطيل والإقصاء وتأبيد تصريف الأعمال. دعوة مصمّمة وصادقة للرئيس المكلّف الى أن يبادر فوراً إلى أحد الخيارين المتاحين، حيث لا ينفع بعد اليوم الصمت والتزام البيوت الحصينة، علّنا ننقذ لبنان”.
رد الحريري
وجاء رد الحريري ليلاً مفاجئاً لجهة “توازن الردع ” والرد على الخيارين بخيارين اذ قال في بيان الرد: “بعد اسابيع عدة على تقديمي تشكيلة متكاملة لحكومة اختصاصيين غير حزبيين قادرة على تنفيذ الاصلاحات المطلوبة لوقف الانهيار والشروع باعادة إعمار ما دمره انفجار المرفأ في بيروت، منتظرا اتصالا هاتفيا من فخامة الرئيس ليناقشني في التشكيلة المقترحة لاصدار مراسيم الحكومة الجديدة، وهي اسابيع زادت من معاناة اللبنانيين التي كانت قد بدأت قبل اختياري من قبل النواب لتشكيل الحكومة بأشهر طويلة، تفاجأت، كما تفاجأ اللبنانيون جميعا، بفخامة الرئيس وهو يدعوني عبر كلمة متلفزة إلى القصر الجمهوري، من اجل التأليف الفوري بالاتفاق معه وفق الآلية والمعايير الدستورية المعتمدة، كما قال فخامته.
وبما انني قد زرت فخامة الرئيس 16 مرة منذ تكليفي بنفس الهدف الذي وضعه فخامته، للاتفاق على حكومة اختصاصيين غير حزبيين قادرة على تنفيذ الاصلاحات المتفق عليها ووقف الانهيار الذي يعاني منه اللبنانيون، فإني اجيبه بالطريقة نفسها انني سأتشرف بزيارته للمرة السابعة عشرة فوراً إذا سمح جدول مواعيده بذلك، لمناقشته في التشكيلة الموجودة بين يديه منذ اسابيع عديدة، والوصول الفوري إلى اعلان تشكيل الحكومة.
اما في حال وجد فخامة الرئيس نفسه في عجز عن توقيع مراسيم تشكيل حكومة اختصاصيين غير حزبيين قادرة على تنفيذ الاصلاحات المطلوبة، لوقف الانهيار الذي تعاني منه البلاد والعباد، فسيكون على فخامته ان يصارح اللبنانيين بالسبب الحقيقي الذي يدفعه لمحاولة تعطيل ارادة المجلس النيابي الذي اختار الرئيس المكلف، والذي يمنعه منذ شهور طويلة عن افساح مجال الخلاص امام المواطنين، وان يختصر آلامهم ومعاناتهم عبر اتاحة المجال امام انتخابات رئاسية مبكرة وهي الوسيلة الدستورية الوحيدة القادرة على الغاء مفاعيل اختياره من قبل النواب لرئاسة الجمهورية قبل خمسة اعوام، تماما كما اختاروني رئيسا مكلفا لتشكيل الحكومة قبل خمسة اشهر”.
وتردد ليلا ان الحريري لن يتأخر في تلبية الدعوة وسيقصد بعبدا للقاء الرئيس عون اليوم.
التهابات الأسعار
والحال ان اللهيب السياسي الذي اطلقه عون جاء عقب التهابات متتابعة في الساعات الأخيرة اذ لحقت أسعار المحروقات بالارتفاعات القياسية لسعر الدولار ولو ان الامر يربط بالأسعار العالمية للنفط . فبعد دولار بـ 15 الف ليرة لامست صفيحة البنزين امس الـ 40000 الف ليرة الامر الذي استجر تداعيات واسعة في كل البلاد ترجم بأزمة تزويد السيارات البنزين وتفاقم الاحتجاجات والتظاهرات وقطع الطرق كما توجهت تظاهرة الى قصر بعبدا اطلقت شعارات تنادي باستقالة عون.
وتزامن ذلك مع حركة لافتة عكست استنفارا لمواجهة الارتفاعات اللاهبة للدولار واتخاذ ما يمكن اتخاذه من إجراءات لخفضه. وعرض الرئيس الحريري، في بيت الوسط، مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الأوضاع المالية والاقتصادية العامة. كما زار سلامة وزير المال في حكومة تصريف الاعمال غازي وزني وقال بعد اللقاء: “اجتمعت مع وزير المال وعرضت عليه بعض الاقتراحات التي سيقوم بدرسها كما سيدرسها المجلس المركزي في مصرف لبنان خلال الـ 24 ساعة المقبلة. نعتقد أن هذه الاقتراحات ستؤدي الى انخفاض سعر صرف الدولار في لبنان”. وقبل اجتماعه مع وزير المال، رأس سلامة اجتماعاً للمجلس المركزي لمصرف لبنان للبحث في مواضيع نقدية ومالية ومصرفية مُلحّة.
عقوبات أوروبية على السياسيين
وفي غضون ذلك نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مصدر ديبلوماسي فرنسي امس أن على الأوروبيين والأميركيين زيادة “الضغوط” على الطبقة السياسية اللبنانية لتشكيل حكومة جديدة وقد يتم ذلك أيضا من خلال “عقوبات”. وصرح الديبلوماسي لصحافيين “يجب زيادة الضغط إلى حد كبير على القادة السياسيين. سيكون هذا عمل الأسابيع المقبلة”. وأضاف “لن نتحرك بمفردنا لكن مع شركائنا الأوروبيين ومع الأميركيين”. وذكر المصدر أن “هذا العمل (ممارسة الضغوط) سيحصل بطريقة أسهل بكثير مع إدارة بايدن” في حين أن دونالد ترامب كان يعتبر لبنان مجرد “عامل لتغيير” معادلة القوى مع إيران. وتابع المصدر الديبلوماسي الفرنسي أنه في هذه الأجواء “ستطرح على الطاولة مسألة العقوبات” التي ستفرض على المسؤولين اللبنانيين الذين يعرقلون أي تقدم سياسي. وقال المصدر “لم تكن مسألة العقوبات الأولوية في آب وأيلول لكن بعد ستة أو سبعة أشهر باتت مشروعة”.
“النهار”