محمد السماك
يلفّ العالم في قاراته الخمس وباء كورونا (كوفيد 19). بدأت قصة هذا الوباء مع الدكتور «لي وينليغ» في مدينة ووهان في الصين. فقد كان أول من اكتشف الوباء. وكان أول الأطباء المعالجين. كذلك كان أول طبيب يذهب ضحيته رغم انه كان في ريعان الشباب.
استقبل الدكتور لي في عيادته المتواضعة في المستشفى مريضاً كان يعاني من التهاب رئوي. لم يستطع وهو الاختصاصي أن يتعرف على أسباب الالتهاب. ثم ظهرت العوارض ذاتها على ثلاثة مرضى آخرين. القاسم المشترك بينهم كان «سوق المأكولات البحرية « في ووهان. أدرك الدكتور لي ان ثمة قاسماً مشتركاً بينهم وهو «انتقال المرض من انسان لإنسان «. ولأن المرض من سوق واحدة، رفع الصوت عالياً محذراً اصدقاءه من احتمال انتشار الوباء.
أعاد هذا التحذير الى الأذهان كارثة انتشار مرض «سارس» بين عامي 2002 و2003، حيث ذهب ضحيته في الصين وحدها أكثر من 700 شخص. نشر أصدقاؤه التحذير عبر شبكة التواصل الاجتماعي. فعمّ الخبر.. وعمّ الذعر قبل التأكد من كيفية مواجهة الأمر.
في الثالث من يناير من العام الماضي جرى التحقيق معه بتهمة إثارة الذعر في المجتمع من دون دليل طبي ثابت. ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تعهد بالتوقف عن إثارة الذعر وعدم القيام بأي نشاط غير شرعي. ووقّع ببصمة الاصبع وبالحبر الأحمر على هذين التعهدين. لم يعاقَب بالسجن، ولم يغرّم بعقوبة مالية. خرج من غرفة التحقيق الى المستشفى التي كان يعمل فيها.
في ذلك الوقت كان الاعتقاد السائد ان العدوى لا تنتقل من شخص الى آخر. غير ان الدكتور لي لم يكن مقتنعاً بذلك. وهنا كانت العقدة. في ذلك الوقت لم يكن يستطيع أن يثبت شكوكه علمياً. لقد بنى هذه الشكوك على العلاقات المباشرة بين الأشخاص المصابين والذين يعملون معاً في سوق واحدة في المدينة الواحدة. وهذه عوامل قد تشكل شبهة، ولكنها لا تقدم دليلاً علمياً يؤخذ به.
في الثامن من يناير نُقلت الى المستشفى سيدة مسنّة (82 عاماً) مصابة بالتهاب رئوي حاد. ولكن لم تكن تعاني من ارتفاع في حرارتها. وأثناء معالجتها عرف منها انها تتردد على سوق المأكولات البحرية لشراء حاجياتها المنزلية. بادر الى علاجها، ولكنه لم يستخدم الكمامة. وهكذا انتقلت العدوى اليه. فوقع في ما كان يحذر منه.
في العاشر من الشهر ذاته بدأ الدكتور لي بالسعال. وبدأ استعمال الكمامة. وحتى لا ينقل العدوى الى عائلته عزل نفسه في البيت وأبعدَ العائلة الى منزل أحد أقربائه ببعد 200 ميل عن مدينة ووهان التي يعمل ويقيم فيها.
ولكن الدكتور لي لم يستطع أن يعالج نفسه منفرداً، فعاد الى المستشفى حيث وُضع في الانفراد. وفي الأول من فبراير أثبت الفحص المخبري إصابته بفيروس جديد. انه ذات الفيروس الذي ظهر على السيدة العجوز التي جاءته تطلب منه المساعدة الطبية. يومها كتب الدكتور لي في مذكراته عبارة واحدة : «انه اذن فيروس كورونا».
عندما انتشر وباء سارس في عام 2012 وظنّ العالم ان انتشاره سيكون نهاية الحياة، نشر الدكتور لي رسالة على صفحته الالكترونية متفاخراً في المشاركة باكتشاف الفيروس وفي معالجة المصابين به قال فيها: «اذا اشرقت الشمس من جديد، ولم أكن موجوداّ لا تشكرونني. انني أقوم بواجبي فقط».
وهذه المرة أيضاً كان يقوم بواجبه عندما التقط الفيروس من السيدة التي كان يعالجها. فقد أصيب بالتهاب في رئتيه حتى الاختناق، وفارق الحياة في 7 فبراير 2020 عن 33 عاماً. وكان أول طبيب يقضي ضحية معالجته مريضاً مصاباً بالكورونا.
واليوم تجاوز عدد ضحايا الفيروس الملايين، والعدد في ارتفاع يومي مستمر، علماً بأنه لو جُمع الفيروس من كل أنحاء العالم لما ملأ وعاء بسعة نصف ليتر. والعالم الذي يواصل بقلق يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، عملية العد التصاعدي للضحايا، لا يعرف بعد متى ستشرق الشمس من جديد. ولا يعرف ماذا سيقول للأطباء والممرضين الذين يعملون في الخطوط الأمامية في مواجهة الفيروس وماذا يقول للدكتور لي الذي كان أول من رنّ جرس الانذار.
“اللواء”