كتبت “الأخبار” تقول: لأن الشائع الآن أن الهاتف لن يرن في قصر بعبدا ولا في بيت الوسط، والشائع أيضاً أن كلا رئيس الجمهورية والرئيس المكلف غير مستعجلَين على رفع السمّاعة مقدار تصلبهما في شروط لا يتزحزحان عنها، يرقد تأليف الحكومة في نوم طويل هانئ إلى وقت غير محدد.
ينتظر رئيس الجمهورية ميشال عون مكالمة الرئيس المكلف سعد الحريري يطلب موعداً لزيارته، ما يفترض أنه يحمل إليه ما يتجاوز تشكيلة 23 كانون الأول الفائت ويوافق على شروطه. بدوره الرئيس المكلف ينتظر مكالمة رئيس الجمهورية يدعوه إلى الاجتماع به لإبلاغه عن تراجعه عن شروطه وتسليمه بالتشكيلة تلك. بإزائهما، لم يسَع الفرنسيون والأميركيون والمصريون والروس – وهم المعلومون بتحركهم أخيراً – ولا مواقف بعض السفراء المتنقلين ما بين المسؤولين، إحراز أي تقدّم للخروج من المأزق، مُكتفين بعناوين عامة عريضة: حكومة تكنوقراط تنتشل البلاد من انهيارَي الاقتصاد والنقد، مع وعود بمساعدات خارجية. وحدهم الفرنسيون مهتمون جدياً وعاجزون ومخدوعون في الوقت نفسه.
مرة أخرى عنى انسداد الحل أن القطبة المحلية لا تقلّ أهمية عن القطبة الخارجية. عن الثانية يقال إن ايران وراءها متسلّحة بنية العمد، بدليل إهمال حزب الله عقبات التأليف في انتظار الحوار الأميركي – الإيراني. يقال إن السعودية أيضاً وراءها بنية القصد ناجماً عن أن الرئيس المكلف لا يؤلف حكومة، أياً تكن، ما لم يحظَ سلفاً بموافقة الرياض عليها بعد فتح أبواب عودته إليها. الموقفان الإيراني والسعودي المعلنان سوى ذلك: الأول يقول إن التأليف شأن لبناني، لا تتدخل فيه طهران خلافاً للواقع الذي يجعلها طرفاً غير مرئي. الثاني يقول إن الرياض أدارت ظهرها للاهتمام بلبنان وللحريري الذي لم يعُد ابناً باراً لها، لا تحكم على الحكومة الجديدة إلا في ضوء تأثير حزب الله فيها مباشرة أو على نحو غير مباشر.
لم تكن هاتان الدولتان الإقليميتان كذلك في مطلع الولاية، وأخفق انتخاب عون عام 2016 في أن يمثّل تقاطعاً إيجابياً بين طهران والرياض. بل ما حدث عامذاك بداية الانفصال السياسي ما بين الحريري والمملكة التي عارضت تفاهماً إيرانياً – فرنسياً على انتخاب الرئيس الحالي، من غير أن تمنعه أو على الأقل تعرقله. عندما فاتحها الحريري في خياره الجديد، المنضم إلى خيار حزب الله في انتخاب عون، رفضته وتركته لقدره، كي تبدأ مذذاك مرحلة القصاص: أولى محطاتها التخلّي عن الوقوف إلى جانبه في حكومته الأولى. تلتها ثانيتها بعد سنة في تشرين الثاني 2017 يوم احتجازه هناك ومعاقبته بسوء معاملته – نفسياً وجسدياً كما قيل – وإرغامه على الاستقالة. ثم ثالثتها وضع اليد على عقاراته وأملاكه وشركاته وتجريده من كل ما يملك لديها، كان صنعه والده الراحل على مرّ عقود، ما خلا جنسيته السعودية. أما رابعة محطات القصاص فلا تزال متواصلة، وهي رفض استقباله في المملكة بالصفة التي يمثّلها الآن ويجول بها على دول أخرى. الواقع أن الرجل لا يزور البلاد التي يحمل جنسيتها بصفته مواطنها حتى. إلا أنها استقبلت عون على أراضيها كرئيس للبنان في أول زيارة رسمية له إلى الخارج في كانون الثاني 2017.
مضى شهر على الاجتماع الخامس عشر بين عون والحريري في 12 شباط، وأخفقا في تفاهمهما بعد قطيعة 50 يوماً على اجتماع 23 كانون الأول. مذذاك المعادلة القائمة، المجمِّدة للتأليف، لا تزال إياها: يصرّ الحريري على حصوله على الوزراء السنّة الأربعة ويقصر عليه تمثيله طائفته، أعطى الثنائي الشيعي حق تسمية وزرائه الأربعة، منح وليد جنبلاط الوزير الدرزي الوحيد رافضاً توسيع الحكومة إلى أكثر من 18 وزيراً كي يحصر به تمثيل طائفته. أضف تمسكه بحقيبتَي الداخلية والعدل، بعدما كان أبدى تساهلاً حيالهما في أحاديث سابقة مع الرئيس قبل اجتماع 23 كانون الأول.
في حجة الرئيس المكلف أن إقصاء الكتل والأحزاب المسيحية عن المشاركة في الحكومة كالتيار الوطني الحر، ومقاطعة أخرى لها كحزبي القوات اللبنانية والكتائب، لا يفضي بالضرورة إلى حصول رئيس الجمهورية على الحصة المسيحية كاملة. لذا اقترح حقيبتين لرئيس تيار المردة سليمان فرنجية مع أن كتلته لا تمثّل سوى أربعة نواب مسيحيين (زغرتاويان وكسرواني وكوراني)، ناهيك بوزير للحزب السوري القومي الاجتماعي ووزير لحزب الطاشناق ووزير للحريري بالذات، ما يحيل حصة رئيس الجمهورية من المقاعد المسيحية ما تبقى منها: أربعة وزراء.
نجاح الحريري في الحصول على حكومة بمواصفات وأحجام وتوازن كهذا من شأنه، في حسبانه، توجيه رسالة إيجابية إلى المملكة يَفترض أنها ترضيها كي تفك الحجْر السياسي عنه الذي يتطلبه ويحتاج إليه أكثر من أي وقت مضى. مفاد حجته أن رئيس الجمهورية، بعدم حصوله على نصاب موصوف، يصبح صفراً سياسياً ويفقد سيطرته على حكومته.
جواب الرئيس غير المتبدّل منذ الاجتماع الخامس عشر، إصراره على ستة وزراء زائداً الوزير الأرمني (الثلث+1)، مع قبوله بترشيحه أسماء لحقيبة الداخلية يختار من بينها الرئيس المكلف. وكانا توافقا على هذه الصيغة في الجلسات الأولى في ما بينهما، قبل أن يطلب الحريري حقيبتَي الداخلية والعدل لنفسه – وكان الرئيس طلبهما له أولاً – على أن لا يشاركه عون في الاقتراح أو التسمية. مذ تسلّم مسودة 23 كانون الأول التي رفضها بكليتها، أضاف الرئيس شرطاً جديداً هو حكومة من 20 وزيراً تكسر أحادية التمثيل الدرزي. لا يزال يصرّ على فصل الثلث +1 الذي يريده عن وزيري حزب الله، اعتقاداً منه – ويجاريه الحزب في وجهة النظر هذه – بأن حليفه قد تربكه بعض الاستحقاقات ولا يسعه مجاراة الرئيس فيها داخل مجلس الوزراء، وتفاديه كذلك أيّ ارتدادات شيعية – شيعية، أو شيعية – سنّية، أو شيعية – درزية.
مآل ذلك أن حزب الله، دونما تخلّيه عن رئيس الجمهورية، يتمّسك بالحياد في النزاع الناشب بينه وبين خصومه. أما هامش دعم عون فأوسع ممّا يُظن: ليس في وارد الضغط عليه لحمله على التنازل عن مطالبه، ولا في وارد تحريضه على الحريري. تفهّم الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله موقف الرئيس بمطالبته بـ20 وزيراً لتمثيل حليفهما الدرزي طلال ارسلان. ومع أنه لم يشاطره رأيه تماماً في الثلث+1، إلا أن تأييده حكومة من 20 وزيراً تجعل الثلث +1 مضموناً بوزير درزي ثانٍ، لا بوزير مسيحي يريده الرئيس في حزب الطاشناق، مضافاً إلى حصته هو من الوزراء المسيحيين.
تلك هي المعادلة المتوازنة القائمة حتى إشعار آخر، المجمِّدة تأليف الحكومة. وهو سيظل في رقاد طويل إلى أن يرن هاتف ما.
يشي ذلك أن كلا الرئيسَين، ومن وراء كلّ منهما حلفاؤه، يخوضان معركة أيهما يُخرِج التأليف من فم الذئب.
في ظنّ كل منهما أن الآخر هو الذئب.