ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس أحد مدخل الصوم، في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطرانان حنا علوان وسمير مظلوم، بمشاركة عدد من المطارنة والكهنة، في حضور رئيس تجمع موارنة من أجل لبنان المحامي بول يوسف كنعان، جماعة الصلاة للقديسة “فيرونيكا جولياني”، رئيس مؤسسة البطريرك صفير الخيرية الاجتماعية الدكتور الياس صفير، رئيس بلدية فاريا ميشال سلامة، نجل الشهيدين صبحي ونديمة الفخري باتريك الفخري، عائلة المرحومة جوزيفين ضاهر الهاشم، المحامية ريجينا قنطرة، وعدد من المؤمنين التزموا الإجراءات الوقائية.
بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان “كان عرس في قانا الجليل” (يو2: 1)، قال فيها: “1.تفتتح الكنيسة في هذا الأحد زمن الصوم، .القائم على أنواع الإماتة والتقشف والتوبة وأعمال المحبة والرحمة، بحضور يسوع حفلة عرس في قانا، وبتحويل الماء إلى خمر فائق الجودة. فأكمل فرح العروسين والمدعوين، بل هو الفرح الدائم في حياة الزوجين والعائلة. وبهذا افتتح الزمن المسيحاني، زمن الفرح والتحول والعبور إلى الأفضل في حياتنا الشخصية والجماعية، روحيا وأخلاقيا، إنسانيا واجتماعيا، إقتصاديا وسياسيا. لقد تقصد يسوع أن يبدأ حياته العامة ورسالته الخلاصية بحضور عرس، ليبين أنه عريس البشرية الدائم ومصدر سعادتها؛ وأن يجري أولى آياته إستجابة لطلب مريم أمه، ليؤكد قدرة تشفعها. فكانت منها كلمتان، واحدة ليسوع: “ليس عندهم خمر”، وواحدة للخدم: “إفعلوا ما يقوله لكم” (يو 2: 3 و 5).
2. نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهية، أيها الحاضرون، في كنيسة الكرسي البطريركي، وأيها المشاركون روحيا عبر وسائل التواصل الإجتماعي، وفي النفس قلق على المصابين بوباء كورونا فنصلي إلى الله لشفائهم، وفي القلب أسى وألم على الضحايا التي خسرناها ونخسرها كل يوم، ملتمسين لهم الراحة الأبدية في السماء، ولعائلاتهم المحزونة العزاء. وإذ أحييكم جميعا، أوجه تحية خاصة إلى جماعة الصلاة للقديسة فيرونيكا جولياني التي تحيي ذكرى سبع سنوات على تأسيسها. ونذكر في هذه الذبيحة المقدسة المرحومة جوزفين الضاهر يونان التي توفيت يوم عيد الغطاس، ولم تتمكن العائلة من جنازتها بسبب الإقفال العام. فنذكرها اليوم بحضور إبنتها السيدة فريدة يونان أمينة سر اللجنة الوطنية لوهب الأعضاء، التي تتعاون بتفان مع اللجنة الأسقفية لراعوية الصحة. نلتمس من الله الراحة الأبدية في السماء للمرحومة جوزفين، ولإبنتها والعائلة العزاء الإلهي.
في الذكرى السادسة عشرة لإغتيال المغفور له الشيخ رفيق الحريري رئيس الحكومة الأسبق، باني العاصمة بيروت من ركام الحرب بهمته الساهرة ومفتديها بدم استشهاده، نجدد التعازي لزوجته السيدة نازك وأولاده وعلى رأسهم دولة الرئيس المكلف سعد الحريري، وشقيقته الوزيرة السابقة والنائبة السيدة بهية. ونصلي إلى الله كي يضع حدا للقتل والإغتيالات في وطننا، وتعم المحبة والأخوة الإنسانية بين الجميع، ويعاد بناء بيروت المهدمة بانفجار المرفأ منذ الرابع من آب، بروح الشهيد رفيق الحريري البناء.
3. بتحويل الماء إلى خمر فائق الجودة في عرس قانا، أجرى يسوع أول عمل فرح كبير، ليس فقط بجودة الخمر ووفرته الكثيرة في الأجاجين الستة، ولكن خاصة بخلاص العروسين من مأزق إجتماعي، وبفرح المدعوين، وإنذهال الخدم ورئيس الوليمة والعريس، وبإظهار ألوهيته يسوع، وإيمان تلاميذه (راجع يو 2: 10-11). هذا هو الزمن المسيحاني، زمن الخلاص والفرح والترقي الذي إفتتحه الرب يسوع في عرس قانا.
يسوع المخلص هو فرح البشرية جمعاء، وزمنه، الذي استودعه كنيسته، وهو رسالة خلاص وفرح وترقي. كان إعلان هذه الحقيقة ليلة ميلاد يسوع بفم الملاك لرعاة بيت لحم: “أبشركم بفرح عظيم يكون للعالم كله: لقد ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب في مدينة داود” (لو 2: 10-11).
4. بعد ثلاثين سنة، إفتتح يسوع زمن الخلاص والفرح في عرس قانا، وعلامته تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة، للدلالة أنه قادر على أن يبدل حياة كل إنسان ويرقيها إلى الأفضل. كل لقاء شخصي وجداني مع يسوع هو لقاء عرس، لقاء خلاص وفرح. فخلاصه هو من الخطيئة والحياة الشاذة، وفرحه هو فرح داخلي دائم يملأ القلب. في عرس قانا رقى الخمرة إلى ذروة جودتها، وفي عرسه الخلاصي رقى الخمرة إلى دمه وإلى ذروة الحب.
رتبت الكنيسة أناجيل آحاد زمن الصوم بآيات شفاء الأجساد من أمراض متنوعة، وهي علامات لما تفعل الخطيئة في نفس الإنسان وداخله. وهي البرص ونزيف الدم والشلل والعمى. فالأبرص (مر 1: 43-48) شفاه يسوع مما كان يشوه جسده ويتآكله، كعلامة لشفاء الإنسان من الخطيئة التي تشوه صورة الله فيه. المرأة النازفة منذ إثنتي عشرة سنة (لو 8: 40-56) أوقف نزيف دمها، كعلامة لشفاء الإنسان من الخطيئة التي تتسبب بنزف أخلاقه وقيمه الروحية والأخلاقية. ومخلع كفرناحوم (مر 2: 1-12) شفاه من شلل جسده، كعلامة لشفاء الإنسان من الخطيئة التي تشله داخليا فيزيغ عقله عن الحقيقة، وإرادته عن الخير، وقلبه عن الحب، وضميره عن سماع صوت الله. وأعمى أريحا (مر 10: 46-52)، فتح عينيه المنطفئتين كعلامة أن يسوع هو نور العقول والقلوب، والشافي من العمى الداخلي الناتج عن خطيئته.
في كل هذه الآيات ورموزها غاية أساسية هي ترقي الإنسان الداخلي، الذي منه ترقي المجتمعات البشرية إلى الأفضل.
5. هذه الآيات التحويلية الأربع، نتوسل مثلها في زمن الصوم الكبير، في حياة كل واحد وواحدة منا لكي ننعم بخلاص المسيح وفرحه. فإذا نلنا هذا الخلاص وهذا الفرح حملناهما إلى عائلاتنا ومجتمعنا ووطننا. وكم نتمنى لو أن المسؤولين السياسيين عندنا، وأصحاب السلطة، يعيشون على مستواهم الشخصي خلاص المسيح وفرحه وترقيه، لكي ينشروه بدورهم على الشعب الجائع والمقهور والمظلوم والمريض والبطال والمحول إلى مستعط خلافا لتاريخه وعيشه بكرامة.
6. .إلى متى تحرمون الشعب، أيها المسؤولون، من حقه في الخلاص من معاناته، وفي العيش بفرح، وفي ترقيه الاقتصادي والإجتماعي؟ لقد تجاوزنا عبثا الفترة المألوفة لتشكيل حكومة تعتمد المعايير الدستورية والميثاقية أساسا، ومصلحة الشعب والوطن هدفا. حان الوقت لأنْ تستخلصوا العبر من هذا الفشل. ألفوا “حكومة الضمير” وليوقعْها ضميركم. فمن المعيب ألا تبتدعوا مقاربة جديدة تتخطى العقد والشروط والمصالح والمزاجية ورفض الآخر. الشعب المقهور يريد تشكيل فريق وزاري نخبوي، مستقل، بعيد عن ذهنية المحاصصة الحزبية، معزز بذوي خبرة في الشأنين الإصلاحي والوطني لمواجهة التطورات الآتية. الشعب يريد حكومة تقوم على معايير المداورة الكاملة وعدم احتكار الحقائب وعدم الهيمنة على مسار أعمالها.
7.ليس المطلوب من رئيس الجمهورية ولا من الرئيس المكلف أن يتنازلا عن صلاحياتهما الدستورية ليؤلفا الحكومة، بل أن يتحاورا ويتعاونا من دون خلفيات وتحفظات غير مكشوفة. إن الحرص على الصلاحيات لا يمنع الليونة في المواقف، ولا يحول دون التفاهم. لكن، مع الأسف، نلاحظ أن عملية تشكيل حكومة جديدة تتعقد عوض أن تنفرج، وبهذا تنزل الأضرار الجسيمة بالدولة واقتصادها ومالها وإستقرار أمنها، وتشل مؤسساتها العامة، وتفكفك أوصالها، وتذل شعبها. بأي حق تفعلون ذلك؟ لا، ليس هذا هو مفهوم السلطة حيث يعجز أصحابها عن الحوار فيما بينهم على حساب الدولة الآخذة بالإنهيار. وفي المقابل لا يوجد عندنا اليوم سلطة دستورية تحسم الخلافات التي تشل حياة المؤسسات الدستورية.
8.لهذا السبب، وإنقاذا للبنان، دعونا إلى تنظيم مؤتمر دولي خاص بلبنان برعاية منظمة الأمم المتحدة. لسنا مستعدين أن ندع الوطن النموذج، الذي أسسناه معا وبنياه ورفعناه إلى مستوى الأمم الحضارية، يسقط أمام الظلامية أو يستسلم أمام المشاريع العابرة المشرق والمخالفة جوهر الوجود اللبناني. لقد آلينا على أنفسنا، طوال تاريخنا، أن نعطي الأولوية للحلول الحضارية والسياسية والدبلوماسية، لا للحلول العسكرية.
مثل هذا المؤتمر الدولي لا ينتزع القرار اللبناني والسيادة والاستقلال -وهي أصلا مفقودة حاليا – بل ينتزعها من مصادريها ويعيدها إلى الدولة والشرعية والشعب، إلى لبنان. المؤتمر الدولي ينزع التدخلات الخارجية التي تمنع بلورة القرار الوطني الحر والجامع، ويثبت دولة لبنان ويضمن حيادها الإيجابي. ويبقى على الأمم المتحدة أن تجد هي الوسيلة القانونية لتقوم بواجبها تجاه دولة لبنان التي تتعرض للخطر وجوديا.
9. نبدأ غدا مسيرة زمن الصوم الكبير، بالصيام والصلاة والتصدق، وبروح التوبة، راجين اللقاء بالمسيح شافي النفوس والأجساد، ملتمسين منه الخلاص والفرح والترقي الروحي، وجاعلينها رسالتنا في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة. ونرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين”.