يبدو أنّ صورة المشهد الحكومي لن تشهد أي تبدّل في المدى المنظور، بعدما ثبت بالملموس أنّ كل الحراك الداخلي والخارجي لانتشال الحكومة من قعر الخلاف المستحكم بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري، قد باء بالفشل، ولم يستطع ان يقود الرئيسين المتناقضين الى مساحة مشتركة يبنيان عليها حكومة بالتفاهم بينهما.
وعلى ما تؤكّد المصادر المحيطة بملف التأليف، فإنّ أي حراك جديد سواء على مستوى الداخل او الخارج، محكوم بالفشل المسبق، ربطاً بالأفق المسدود بين عون والحريري، وتمترس كلّ منهما خلف موقف قاطع لا تراجع عنه من قبلهما، ويتمثل في أنّ كل رئيس يريد حكومته، ويريد أن يُلزم الرئيس الآخر بها، ورفض كلّ منهما التنازل او التقدّم خطوة في اتجاه الآخر.
تثبيت الخلاف
هذه الصورة عادت لتتمظهر بسوداويتها في لقاء الأمس، بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، بعد نحو سبعة اسابيع من انقطاع التواصل بينهما، والذي بدا، من حيث شكله ومضمونه، وكأنّه محطة جديدة لتبادل كرة تعطيل تأليف الحكومة، وعلى ما يؤكّد مطلعون على ما جرى في اللقاء لـ”الجمهورية”، فإنّ اجواءه كانت متأثرة الى حدٍ بعيد بالسجال المكهرب بينهما خلال الاسابيع الاخيرة، والنقاش القصير لأقل من نصف ساعة، بين عون والحريري، كان فاتراً في مجمله، ولم يحصل فيه أيّ عتاب حول ما قاله كل منهما في حق الآخر في محطات السجال المتتالية بينهما، بل جرى الدخول مباشرة، وبكلام “جدّي” في الموضوع، وأعاد كل منهما تكرار موقفه السابق أمام الآخر، مع فارق انّ الرئيس الحريري كان مشدّداً في اللقاء على ضرورة الاستفادة من الفرصة المتاحة لتشكيل حكومة انقاذية سريعاً، تعجّل بفتح باب المساعدات الخارجية للبنان.
وبحسب المطلعين على أجواء اللقاء، فإنّ شريكي التأليف لم يقدّما في لقاء بعبدا أمس، ما يؤشر الى قبول أي منهما بحلول وسط، من شأنها أن تُحدث خرقاً إيجابياً في جدار الخلاف بينهما. بل العكس، فإنّ لقاء الامس بينهما جاء ليؤكّد من جديد على جوهر الخلاف بينهما، وثبات كل منهما على شروطه و”معاييره” لتأليف الحكومة. ومعنى ذلك، انّ المراوحة السلبية في ملف التأليف ستبقى هي الطاغية لفترة طويلة، في انتظار ظروف محلية او خارجية تحرّكها وتحرف مسارها نحو الإيجابية.
وفيما لوحظ انّ لا عون ولا الحريري أشارا الى توافق بينهما على لقاء جديد، افترضت مصادر سياسية، انّ هذا اللقاء ممكن، وخصوصاً انّ لقاء الامس، كسر القفل، وصار باب اللقاءات مفتوحاً، خلافاً لما كان عليه الحال قبل، وإبّان، وبعد، أزمة “الفيديو المسرّب” وما قاله عون بحق الحريري. فضلاً عن أنّ لقاء الأمس، أنهى مرحلة تقاذف الكرة بين قائل: “لن ازور بعبدا إلّا بدعوة من عون”، وبين قائل: “إنّ اراد الحريري زيارة القصر الجمهوري فبابه مفتوح لاستقباله”.
الّا أنّ مصادر مواكبة لزيارة الحريري الى بعبدا أمس، وبناء على نتائج لقاء الأمس بين عون والحريري، لا ترى في الأفق القريب إمكان عقد لقاء ثانٍ بينهما. فالواضح أنّ مبادرة الحريري الى طلب موعد لزيارة رئيس الجمهورية تمّت بنصيحة، كان للفرنسيين الثقل الأساس في اسدائها، بالشراكة مع اطراف سياسية في الداخل، بهدف ابلاغ رئيس الجمهورية بالأسباب الموجبة للتعجيل بتشكيل حكومة مهمّة متوازنة، لا يملك اي طرف فيها قدرة تعطيلها او التحكّم بها بثلث معطل او بأي مرادفات او عناوين اخرى لهذا الثلث المعطل.
وتبعاً لذلك، فإنّ المصادر نفسها تؤكّد أنّ لقاء الامس بين عون والحريري، اقرب ما يكون الى الاجتماع الاخير الذي عقداه قبل عيد الميلاد، وجرّ بعده ما يزيد عن سبعة اسابيع من انقطاع التواصل بينهما، ما يعني أنّ الامور ما زالت عند نقطة الصفر، فالحريري في زيارته بعبدا أمس، جاء ليلقي الحجة على عون، ويرمي كرة تسهيل التأليف في ملعبه، ويؤكّد له مواجهة بأنّ مسوّدة حكومته التي قدّمها له في لقاء ما قبل عيد الميلاد ما زالت تشكّل الصيغة الحكومية الملائمة للمرحلة الإنقاذية المقبلة. وهو ما لم يقبل به رئيس الجمهورية، مع تشديده على المعايير التي سبق وحدّدها لتشكيل الحكومة، فسارع الى ردّ الكرة الى ملعب الحريري والقول انّه، اي الحريري، لم يأتِ بأيّ جديد على صعيد الملف الحكومي.
على انّ اللافت في الكلام الرئاسي، بحسب المصادر نفسها، كان تعمّد مكتب اعلام رئاسة الجمهورية الاشارة الى أنّ زيارة الحريري الى بعبدا امس تمّت بناءً على طلب الحريري، وليس بناءً على دعوة رئيس الجمهورية. وهو امر فُسّر على انّ عون لا يريد ان يسري الاعتقاد بأنّ زيارة الحريري تمّت بدعوة منه، ولكي لا تُفسّر الزيارة على انّها نقطة تراجع من قِبل رئيس الجمهورية.
اللقاء
وكان الحريري، العائد من فرنسا بعد “العشاء الباريسي” مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، قد زار امس، القصر الجمهوري في بعبدا، وعقد لقاء قصيراً لأقل من نصف ساعة مع رئيس الجمهورية. وقال بعد اللقاء: “تشاورت مع رئيس الجمهورية، وسأكمل التشاور، ولا تقدّم في تشكيل الحكومة، ولكن شرحتُ للرئيس عون الفرصة الذهبيّة التي نحن فيها وكلّ فريق يتحمّل مسؤوليّة مواقفه منذ اليوم”.
واضاف: “خلال زيارتي الى فرنسا، لمستُ حماساً لتشكيل الحكومة اللبنانية، والمشكلة تكمن في تأليف حكومة مكوّنة من اختصاصيين، ولذلك لا يمكن القيام بأيّ مهمّة إصلاحيّة”. وتابع الحريري: “موقفي ثابت وواضح، وهو تشكيل حكومة من 18 وزيراً جميعهم اختصاصيون وهذا ما لن يتغيّر لديّ”.
مكتب الرئاسة
وبعد كلام الحريري، صدر عن مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية بيان مقتضب جاء فيه: “انّ رئيس الجمهورية، استقبل رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري بطلب منه، وتشاور معه في موضوع تشكيل الحكومة العتيدة بعد الجولات التي قام بها الرئيس الحريري الى الخارج، حيث تبيّن انّ الرئيس المكلّف لم يأتِ بأي جديد على الصعيد الحكومي”.
“المستقبل” يردّ
بعد صدور بيان مكتب الاعلام في القصر الجمهوري، نشر موقع “مستقبل ويب” التابع لـ “تيار المستقبل”، خبرًا تحت عنوان: “بيان بعبدا : “بيّي أقوى من بيّك”! ونسبه إلى متابعين”.
وجاء في الخبر: “لاحظ متابعون أنّ بيان رئاسة الجمهورية الذي صدر عقب زيارة الرئيس المكلّف سعد الحريري لبعبدا، تضمّن ملاحظة وُصفت بأنّها “خفيفة”، من خلال الاشارة الى انّ الزيارة حصلت بطلب من الرئيس الحريري ، وذلك على طريقة ” بيي اقوى من بيك”.
واشنطن وباريس
الى ذلك، أعاد لقاء الامس بين عون والحريري ترسيم مواقف الاطراف الداخليين المتباينة والمتصادمة على حلبة التأليف. وبالتوازي مع مواقف الاطراف الخارجيين، حيث فصّلتها مصادر واسعة الاطلاع لـ”الجمهورية” بالتأكيد بداية على معطيات ابلغها الفرنسيون لعدد من المسؤولين في لبنان، تؤكّد أنّ موقف الادارة الاميركية من ملف تأليف الحكومة في لبنان، بات محسوماً بأنّه يقف بقوة الى جانب فرنسا في مقاربة هذا الملف.
وتشير المصادر عينها، الى انّ الموقف الفرنسي متقدّم جداً، وثمة “محطة لبنانية جديدة” للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بعد فترة قريبة في السعودية، يعوّل عليها أن تكون رافداً داعماً بقوة للمبادرة الفرنسية.
وتجزم المصادر، وفق ما تبلّغه بعض المسؤولين من الفرنسيين، بأنّ زيارة ماكرون الى بيروت قائمة، انما لم يتمّ تحديد موعدها، فباريس، التي حسمت موقفها الى جانب الشعب اللبناني، والتمسّك بالمبادرة الفرنسية كفرصة نهائية ووحيدة لحلّ الأزمة في لبنان، تربط اي تحرّك حاسم وفاعل لها في هذا السياق، بخطوة ايجابية تنتظرها من القادة اللبنانيين بالتفاهم سريعاً على تشكيل حكومة وفق مندرجات المبادرة، وتلبّي مطالب الشعب اللبناني ومتطلبات المجتمع الدولي، بطرح ملف الاصلاحات على طاولة التنفيذ سريعاً. وعلى هذا الاساس قد تكون الزيارة المرتقبة لماكرون زيارة للتهنئة بوضع لبنان عجلات ازمته على سكة الإنقاذ.
في هذا السياق، قالت مصادر ديبلوماسية من العاصمة الفرنسية لـ”الجمهورية”، انّ باريس مرتاحة الى موقف الرئيس المكلّف، وخصوصاً لناحية تشكيل حكومة مصغّرة من اختصاصيين بالكامل غير الحزبيين، ولا ثلث معطلاً فيها لأي طرف. وهي مؤيّدة بالكامل ايضاً للمبادرة التي اطلقها رئيس المجلس النيابي نبيه بري في الآونة الاخيرة حول حكومة بلا ثلث معطل لأي طرف، ومن وزراء اختصاصيين لا سياسيين، لا مع ولا ضد. فهذه المبادرة يقاربها الفرنسيون بوصفها مرتكزاً صالحاً لما يجب ان تكون عليه حكومة تلاقي المبادرة الفرنسية.
الموقف الرئاسي
وعلى مستوى الداخل، ابلغ مطلعون على الموقف الرئاسي إلى “الجمهورية” قولهم، بأنّ لا مؤشرات ايجابية على خط التأليف، ورئيس الجمهورية لم يتلق من الرئيس المكلّف ما يمكن البناء عليه لحصول تقدّم.
وبحسب هؤلاء المطلعين، فإنّ موقف رئيس الجمهورية ثابت عند تأكيده التقيّد بأحكام الدستور في عملية التأليف التي تؤكّد شراكته الكاملة فيها، ورفضه أي محاولة للقفز على صلاحياته، وحقه في تسمية وزراء وابداء الرأي في الوزراء الآخرين. وكذلك عدم مطالبته بالثلث المعطل في الحكومة، ولكن مع تأكيده على اعتماد المعايير الموضوعية في تأليف الحكومة، بما يؤدي الى تمثيل صحيح، وهذا لا يتأمّن مع حكومة مصغّرة من 18 وزيراً، بل في حكومة من 20 وزيراً على الاقل. ومن هنا يأتي رفضه المتجدد امس، لمسوّدة الحريري القائمة على معادلة الثلاث ستات.
وعلى ما يقول المطلعون، فإنّ الأجواء الرئاسية تشي بعدم الارتياح من مواقف القوى الداخلية الحاضنة للحريري وتصلّبه في وجه رئيس الجمهورية، كما من مواقف بعض الخارج التي يُقال انّها تتناغم مع الرئيس المكلّف وما يطلبه، في اشارة الى ما يُنقل عن الموقف الفرنسي على وجه الخصوص. كما انّ الاجواء الرئاسية، وفي اشارة الى زيارات الحريري الى تركيا، ودولة الامارات ومصر وفرنسا، تعكس انّ أي تحرّكات خارجية في اي اتجاه عربي او اقليمي او دولي، لن تأتي بأي نتيجة من شأنها ان تُحدث تغييراً في ما هو ثابت، ذلك أنّ الكلمة الفصل في نهاية الامر هي لدى من يحمل قلم توقيع مراسيم تشكيل الحكومة.
ثوابت الحريري
في المقابل، تعرض اوساط قريبة من بيت الوسط تطورات الملف الحكومي، من التأكيد بداية على الجهد الذي يبذله الرئيس الحريري في سبيل تأليف الحكومة، مشيرة في هذا السياق الى ما سمّتها الزيارات الخارجية الناجحة التي قام بها في الايام الاخيرة، وعكست حرصاً على لبنان، وتشكيل حكومة في اسرع وقت ممكن لبدء عملية الإنقاذ والإصلاح.
وربطاً بما استجد حول ملف التأليف، وصولاً الى الزيارة التي قام بها الرئيس المكلّف الى القصر الجمهوري، أعادت الاوساط القريبة من بيت الوسط عرض ما سمّتها “مجموعة ثوابت”، كما يلي:
– أولاً، لا اعتذار عن تأليف الحكومة، بل إصرار على الاستمرار في تولّي هذه المسؤولية. وموقفه هذا مؤيّد، لا بل يشدّد عليه اطراف في الداخل، مثل الرئيس بري، وكذلك من قِبل الفرنسيين والمصريين الذين اكّدوا عليه الثبات على التكليف.
– ثانياً، انّ المسودة التي قدّمها الى رئيس الجمهورية، وأعاد التأكيد عليها، تشكّل الاساس الصالح للحكومة الجديدة.
– ثالثاً، في موازاة الحديث في اوساط سياسية متحمسة للتعجيل بتأليف الحكومة، عن ليونة في ما خصّ تسمية الوزراء، أكّدت الاوساط القريبة من بيت الوسط رفض الحريري القاطع ان يحظى رئيس الجمهورية وفريقه السياسي بالثلث المعطل، وموقف الرئيس المكلّف هذا مؤيّد من سائر الاطراف السياسية.
وتؤكّد معلومات “الجمهورية” في هذا السياق، أنّ اطرافاً سياسية بارزة ابلغت الى الحريري، أنّه حتى ولو قبل هو بالثلث المعطل لعون وفريقه فهم لن يقبلوا بذلك، ولن يكونوا شركاء في اي حكومة يحظى فيها طرف بعينه على ثلث معطل فيها. وتجدر الاشارة هنا الى الموقف المتصلّب من الثلث المعطّل الذي عبّر عنه الرئيس نبيه بري في مبادرته الاخيرة. وكذلك الكلام الصادر عن رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط.
– رابعاً، إنّ الرئيس الحريري كان ولا يزال يؤكّد على حكومة شراكة بالكامل بحكومة من 18 وزيراً، وهذا يؤمّنه التوازن فيها وفق معادلة 6-6-6.
– خامساً، إنّ الهدف الاساس لدى الرئيس المكلّف هو تشكيل حكومة “تَحكُم”، تكون مطلقة اليد في مقاربتها للملفات الداخلية على اختلافها وترتيب الاولويات وفق متطلبات الأزمة ومعالجتها، وليس حكومة “تُحكَم”، بمزاجية طرف سياسي يريد ان يديرها في الاتجاه الذي يخدم مصلحته. والتركيز على اولويات الغاية منها الثأر الشخصي او السياسي من أطراف آخرين.
– سادساً، إنّ الاولوية الاساس لدى الرئيس المكلّف، هو تشكيل حكومة لا تكون محاصرة عربياً ودولياً على غرار ما حصل مع حكومات سابقة، وان تحمل هذه الحكومة معها مفتاح المساعدات الخارجية للبنان، وكذلك مفتاح اعادة ترتيب علاقات لبنان مع الخارج، وخصوصاً مع الدول العربية وعلى وجه الخصوص دول الخليج. وهو ما اكّد عليه بالامس في اللقاء مع رئيس الجمهورية.
“الجمهورية”