ما يحصل في لبنان هذه الأيام يثير الاهتمام، وله انعكاسات غير عادية على البلد المنكوب، دفعت بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى القول: إن لبنان ضحية تحالف بين الفساد والترهيب، وواضح أن اتهامه موجه نحو المتحكمين في الدولة من هواة لعبة الانتحار السياسي والذين لم يتعظوا من تجارب الماضي، حيث الذي يخرج سالما من اللعبة تُدميه الكسور والتشوهات.
وما رافق أحداث مدينة طرابلس الأليمة، كما الحيثيات الغريبة التي غلفت الملف القضائي الذي يخص حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إضافة الى التسريبات التي استهدفت قائد الجيش جوزيف عون، والكلام الجديد من نوعه الذي صدر عن مكتب الرئاسة في بعبدا، كلها تؤكد أن ما يحصل غير عادي، والغالب أنه مسلسل مترابط وليس بمحض المصادفة.
رفض رئيس الجمهورية لطلب رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب بعقد اجتماع لمجلس الدفاع الأعلى (وهو انعقد عشرات المرات في عهد الرئيس عون لأسباب عادية ولمناقشة مواضيع ليست من اختصاصه) كما رفضه لترؤس اجتماع مجلس الأمن المركزي لمتابعة التفلت الخطير الذي حصل في طرابلس، أوحيا لأنه يغطي أعمال الفوضى أو يتساهل مع حصولها، وموقفه بمنزلة تشجيع على خرق التدابير والقوانين.
ومن المعروف من حيث النتائج أن ما حصل كان يهدف الى استحضار الملف الأمني بقوة، بما يشبه «الإرهاب بغطاء شرعي» الذي عادة ما تستعمله الأنظمة الأمنية لتحقيق شعارها المعهود: أمنكم مقابل خضوعكم السياسي. وبطبيعة الحال فقائد الجيش مستهدف لتشوية سمعته، لأنه سيخرج خاسرا في أي حال: إما مقصر بحفظ الأمن برأي فئة، او على صدام مع جمهور الجائعين في المدينة والذين لم يلتفت اليهم أحد بعد أن انقطع دخلهم بسبب الإقفال.
وما جرى مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة غريب ويثير الشبهات. فقد عمدت جهات لبنانية رسمية الى تسريب ملفه القضائي مع السلطات السويسرية حول تحويلات مشبوهة، ومن ثم حصل الادعاء عليه بالتقصير الإداري من مرجعية قضائية موالية وليست ذات صفة، لمنعه من السفر الى جنيف والمثول أمام القضاء السويسري، وقيل في العديد من وسائل الإعلام: إن نافذين يحاولون تعطيل سفره كي لا يدلي بمعلومات عن الملف المالي في لبنان برمته، بما في ذلك كشف أعمال مالية مخالفة لمقربين من العهد. بينما الإعلام المناهض لسلامة يحاول تحميله مسؤولية ضياع أموال اللبنانيين، وهؤلاء يعرفون أن أموالهم التي استدانتها الدولة صرفت في مكان آخر خصوصا على ملف الكهرباء، ولا يمكن لتحويلات سلامة الشخصية أن تساوي هذه المبالغ المستدانة، سواء كانت 25 مليون دولار كما يقول هو، او 400 مليون كما يقول خصومه. واللافت أن فريق العهد وحلفاءه هم الذين أثاروا هذا الملف ويقفون وراء تحريكه ايضا.
والبيانات التي صدرت عن مكتب إعلام رئاسة الجمهورية تنم عن اختلال قيادي رهيب، ذلك أن الخلاف على تشكيل الحكومة مع الرئيس سعد الحريري لا يستدعي استخدام عبارات انفعالية تمس بجوهر الطائف وقد تؤسس لضياع البلاد في متاهات مخيفة. والخلاف واضح على التشكيل، بين رؤية الحريري لتأليف حكومة مهمة من اختصاصيين، وبين تطلع عون لحكومة سياسية يسيطر تياره على أكثر من ثلث أعضائها، وهو ما يتعارض مع المبادرة الفرنسية، ويخالف توجهات بيان القيادات الروحية اللبنانية، الذي أشار الى ضرورة الإسراع في تأليف حكومة مهمة إنقاذية.
يرى المراقبون أن ما يجري مترابط ووفق خطة مدبرة، وليس بالمصادفة. وقول النائب جبران باسيل للوسطاء «لم يعد لدي ما أخسره» يعني أنه يحاول إغراق الجميع بعد أن غرق هو في وحول العقوبات التي تتهمه بالفساد. وإثارة الفوضى بالنسبة له أسهل من التعرية السياسية التي وصل اليها في الشارع المسيحي وعند اللبنانيين. لكن هذه المقاربة خطيرة جدا، وهي تعني إعطاء أولوية لمصلحته الشخصية على مصلحة الدولة، وقد تدفع بالبلاد نحو الفتنة، ومن كان يدفع باتجاه الفتنة في لبنان، كان أول من يحترق بنارها.