نوال نصر
حين يعمّ السواد يُصبح تسرّب الضوء، مهما أتى خافتاً، أقوى. ليليان شعيتو، إبنة بلدة الطيري، تسلّلت إلينا، الى كل اللبنانيين، في ليلة رأس السنة لتبعث بعض الأمل بأن لا شيء مستحيلاً تحت الشمس. لكن، وكما دائماً، وكأنه كُتب على اللبنانيين ألا يعيشوا “الفرح الكامل”، فأتت حكاية ليليان وزوجها حسن (حدرج) وابنهما علي لتفتح الجدال واسعاً حول “الضحية والجلاد”! فهل ليليان (ضحية من “اقترفوا” جريمة 4 آب) وضحية حسن وأهل حسن وقانون الأحوال الجعفرية؟ وهل حسن هو جلاد أم هو ضحية أخرى جُلدت من بيت أبيها؟ وهل أصل القصة وما فيها: إسم الطبيب الذي يحقّ له تطعيم الطفل؟
الثابت أن ليليان أحبّت حسن وحسن أحبّ ليليان وتزوجا قبل عامين وغادرا الى أبيدجان حيث يعمل حسن وظنا أنهما سينجبان صبياناً وبناتاً ويعيشان في نعيم وأمان. هي من بلدة الطيري، في محافظة النبطية، التي هتفت لها البارحة، بعد أن انتشرت قصتها: “نحنا رح نصرخ ونقول كل بنت عنا هي ليليان وكل بيت من بيوتنا بيتضامن مع بيت شعيتو”. وهو من هونين، إحدى القرى اللبنانية السبع المحتلة، جنب إبل القمح وطربيخا وصلحا وقدس والمالكية والنبي هوشع.
عادت ليليان من أبيدجان الى لبنان لتضع مولودها. وولد علي الذي قلب كل كيانها وجعل قلبها يدق أكثر من اي يوم مضى. وقبل ستة أيام من عيد ميلاد زوجها حسن قررت أن تخرج لأول مرة بعد أربعين يوماً على قدوم طفلها، لتشتري هدية، باسم علي، تُفاجئ بها والده حسن. وحصل ما حصل. ماتت ليليان وقامت. هو القدر الذي يتحكم بكثير من حراكنا. وهو الاتكال على الله والتسليم بأمره مصدر كل صبر وفرج. “فيا فارج الهمّ يا كاشف الغمّ يا رب الأرباب إن أمتك ليليان بنت نائلة بين يدي رحمتك”. قالت نوال، شقيقة ليليان الكبرى هذا، منذ رأت دماغ شقيقتها الأصغر ليليان خارج رأسها. التسليم بإرادة الله منحها الرجاء. دخلت ليليان في غيبوبة وفي أول يوم من السنة الجديدة إبتسمت. الخبر أشعل أملاً في نفوس كثير من اللبنانيين الى أن تلاه الخبر الآخر: ممنوع على ليليان رؤية طفلها وزوجها يستعد للطلاق وهي واقعة في غيبوبتها. خبر أول سعيد وخبر ثان يشمئز منه العقل والقلب. والخبر الثاني أشعل مواقع التواصل الإجتماعي بهاشتاغات: #الطفل_ينقذ_ليليان. و #ليليان_بحاجة_لابنها. و #رجعوا_طفل_ليليان_شعيتو. و #أم_محرومة_ابنها.
فهل هناك أصعب من حرمان أم من رائحة طفلها؟ وهل هناك أصعب من اتهام زوج وأب بالخطيئة الكبيرة؟
لم يبق أحد مستثنى من هذه الحادثة. كل اللبنانيين شعروا بأنفسهم معنيين. الكل علّقوا وغرّدوا وحللوا وغاصوا. فقضية ليليان متعددة الأوجه. فهي من ترددات جريمة فظيعة اقترفتها الدولة اللبنانية في حق أهل البلد. وثانيها، إبتسامة ليليان في أحلك لحظات يعيشها لبنان. وثالثها، إبعاد طفلها عنها.
من يتابع دقائق القصة يشعر بتأثير بيت حدرج على الكنة الشابة. فهي تتحدر من عائلة منفتحة، تضم خمس بنات هن: نوال، نسمة، لينور، ملكة وليليان. وعيون والدها نبيه ووالدتها نائلة كانت تضحك كثيراً. والصورة التي جمعتهم كلهم في يوم عرس صغيرة البيت ليليان تشي بحجم التماسك بينهم، “فالكل واحد” شعار بيت نبيه شعيتو. لكن، ليليان التي أحبت حسن قررت ان تتحجب، عكس أخواتها، كما أخواته هو. وهذا دليل انها ارادت ان تفعل كل ما يرضيه. وهي، بحسب كل معارفها، طيبة القلب وتحب بكل جوارحها. ليليان، الطيبة، ستعيش “بحسنة علوشي”. تردد شقيقتها نسمة.
نسمة، شقيقة ليليان، كما الملاك الحارس لها. هي تذهب لتنام عندها مساء وتغادر لتأتي نوال، تغادر نوال لتأتي نائلة، تغادر نائلة ليأتي نبيه… وتقول نسمة وهي متوجهة الى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت حيث تعالج ليليان: “شقيقتي حالياً في غرفة عادية. تتجاوب معنا. تلاحقنا بعينيها. وتُمسك بهاتفها. ونشعر بدمعتين معلقتين دائماً بين أهدابها. هي تتحسن وهذا هو الأهم. ابتسمت لنا بعد ان غادرت الممرضة غرفتها وكانت ترقص لها وتغني، وبعد ان سمعتنا نخبرها أنها لو كانت قادرة على الكلام لقالت لها، للممرضة، كفى. ابتسمت”.
تتمنى عائلة ليليان لو تستطيع رؤية علي. وهل هناك “أوكسيجين” أكثر فعالية من رائحة الولد؟ لكن، هل علينا أن نُصدق بسهولة أن عائلة حدرج منعت عائلة شعيتو وليليان من رؤية علي؟
نسمة تتحدث عن قدوم حسن، بعيد الحادث الذي ألمّ بلبنان وليليان، بعد 25 يوماً من الحادث. بقي هنا 15 يوماً. واتصل من مطار رفيق الحريري الدولي فجأة ليُخبرهم أنه عائد الى عمله وعالمه في أبيدجان. ذهب ولم يعد. تضيف: “لم يكن هناك أي خلافات بينهما على ما نعرف ولا يمكننا أن نتكهن لماذا تصرف كما تصرف”. وما الذي قد يُبدل وجود علي حالياً الى جانب والدته؟ تجيب: “الأطباء أخبرونا أن وجوده سيُحفزها على الشفاء واستعادة وعيها الكامل، بدليل أننا حين نريها فيديو علي تزيد دقات قلبها. ليليان بحاجة كثيراً الى وجوده الى جانبها. إنه يقويها وهي، لا بُدّ، ستقويه. فلا أحد، لا أحد أبداً، مكان الأم”.
لا أحد بالفعل مكان لا الأم ولا الأب. والكلام كثير والسؤال الأبرز، لماذا حدث ما حدث؟
يكاد يطير عقل أفراد عائلة حسن حدرج من كل ما سمعوه. وشقيقته الصيدلانية ملاك نقلت تغريدة لشقيقها حسن هي آية قرآنية فيها “وإذ يُمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”. ولدى ملاك الكثير لتقوله: “ما لم يُقل حتى الآن هو سبب الخلاف الرئيسي بين العائلتين وشرارته: من هو الطبيب الذي سيقوم بإجراء تطعيم علوشي. حماة ليليان سهى تريد طبيباً وحماة حسن نائلة تريد طبيباً آخر. وحينها قالت سهى: الوالد حيّ يرزق ويستطيع أن يقرر ما يريد لطفله فغضبت جداً نائلة”. والله لا يوقّع أحداً بين لساني حماتين.
أهل ليليان يعيشون في بيت حسن وليليان. نزلوا إليه يوم أنجبت وما زالوا حتى الآن فيه. وتقول ملاك حدرج: “أحب حسن وليليان بعضهما جداً. هي كانت تدرس في الجامعة اللبنانية فأعجبته، وأضافها على حسابه على الفيسبوك، فقبلت صداقته، وبدأ الكلام والهيام. وبعد أسبوع أتت لزيارتنا ففلشنا لها السجاد الأحمر. وهي، من أجله، قررت أن تتحجب وترتدي أثواباً طويلة. ويوم حصل ما حصل طار عقل شقيقي. وحين أتى الى لبنان لرؤيتها وجلس الى جانبها قال له الطبيب الدكتور حسين درويش: “ما فيك تقعد هيك لأن حالتها طويلة. إذهب الى عملك. سافر ويوم قرر أن يعود، وقطع تذكرة سفر، أجرى فحص كورونا فأتت النتيجة إيجابية واضطر أن يمكث طوال أسبوعين في الحجر في ابيدجان”. وتستطرد ملاك بالقول: “يصل شقيقي الأسبوع المقبل الى لبنان وهو سيُقرر ما سيحدث”.
المحكمة الشرعية الجعفرية قررت أن تمنع الوالد حسن من نقل علي خارج لبنان، وتسليمه الى جدته، والدة والدته، أربع ساعات يومياً بهدف تقريبه من أمه المريضة. فهل علينا أن نتوقع زيارة علي والدته في اليومين المقبلين؟ تجيب ملاك: “لدينا معلومات أن القرار سيُصار الى إلغائه من قِبل قاضي محكمة بيروت الشرعية الجعفرية الشيخ موسى ذياب سموري الذي لم يُصر الى مراجعته حين اتخذ القرار” وتستطرد “نحن لن نتدخل في كل الأحوال في الموضوع ولا مشكلة بذلك ونحن طالما دعونا أهل ليليان، عبر صهرها، زوج شقيقتها نسمة، أحمد دعجه كي يأتوا ويشاهدوا علوشي. لكنهم لم يفعلوا”. تخبر ملاك هذا وهي تفتح رسائل صوتية بينها وبين صهر بيت شعيتو أحمد دعجه يتحدثان فيها عن ضرورة أن يرى الطفل أمه وعن رضى بيت حدرج عن ذلك. أحاديث لا تشي أبداً بخلافات جوهرية كبيرة.
لكن، نعود لنسأل: هل المشكلة تكمن في الحماة، والدة حسن سهى، أو بالحماة، والدة ليليان نائلة؟ وكيف لعائلة حدرج أن تقيم احتفالاً كبيراً بمناسبة بلوغ علي ستة أشهر ووالدته طريحة الفراش؟ تجيب ملاك: “أنا من حضّرت الإحتفال وسأحضّر إحتفالاً أكبر لعلوشي، فهو يحتاج في غياب والديه، الى كثير من الحب”.
من نصدّق: آل شعيتو أم آل حدرج؟
الشابة ليليان ستبقى الحكم بعد أن تستفيق، في شكل كامل، والى أن يحصل هذا من يُصغي الى الجانبين سيشعر حتماً أن المشكلة من الميلين. فما ألمّ بهما كبير. فكم صعب على الأم نائلة أن تبكي يومياً وهي ترى ابنتها التي كانت مفعمة بالحياة، بلا لون ولا حراك، ولا يمكن بالتالي اتهامها مطلقاً بأنها سبب الخلاف العائلي. ولا يمكن، في المقابل، التسرع في اتهام الأم سهى بأنها من تسببت بخلافٍ عائلي، ولو كان عليها أن تكون متفهمة أكثر، حتى ولو كانت نائلة قد دعت عليها “بأن ترى أولادها كما رأت هي ابنتها”. كما أخبرتنا ملاك. صحيح هناك جواز سفر صدر باسم الطفل علي لكن ليس “لخطفه” كما قالت ملاك “بل لأن حسن ينتظر أن تقوم زوجته من الغيبوبة وتعود الحياة الى مجاريها. وجواز السفر كما الهوية وكما سجل اللقاحات وإخراج القيد العائلي بالنسبة الى حسن.
من يعرف العائلتين يتحدث عن علاقة مميزة كانت تجمع الزوجين غير أن حسن كان لديه شعور داخلي عميق دائم بأنه تمّ إلغاء معادلة وجوده. كان يشعر دائماً، على الرغم من حالته الإجتماعية الممتازة، بعقدة نقص. فبيت شعيتو طالما فضلوا الصهر دعجه على الصهر حدرج. والمشاعر السلبية تشتدّ في الأوقات الأكثر صعوبة. وهذه الأوقات التي تمرّ فيها العائلتان هي الأصعب.
وماذا بعد؟ ماذا إذا استفاقت ليليان تماماً اليوم أو غداً وعرفت بما حصل؟
عائلة حدرج متأكدة أن أول إسمين ستتفوه بهما هما علوشي وحسن. وأول ما سيفعله هو أنه سيخطف هذه المرة كلاً من ليليان وعلوشي ويذهب بهما الى أبيدجان حيث يعمل في تجارة قطع السيارات. أما عائلة شعيتو، وتحديداً نسمة، فتقول وهي تجهش بالبكاء: ليليان تحب علوشي كتير وهي، يوم الحادث الرهيب وغيابها الكلي عن الوعي، كانت قد وضعته تحت رعاية والدتها. هي قالت لها: سأذهب ماما ساعتين وأعود فانتبهي عليه برموش العينين. وهذا ما أرادت نائلة فعله.
ليليان ستستيقظ، إذا أراد الله، من حالة اللاوعي. والمحكمة الشرعية الجعفرية حكمت أن ينزل علي أربع ساعات يومياً الى بيت جديه نبيه ونائلة ويعود الى جديه والدي حسن الذي سيصل هذا الأسبوع الى بيروت أو، في حدّ أقصى، أول الأسبوع المقبل. وحينها ستختلف الأمور كثيراً. وقد تنتهي قضية ليليان وحسن وعلوشي. لكن كم هناك من ليليان وحسن وعلوشي في لبنان. ننتظر. نراقب. وللحديث بالتأكيد صلة.
“نداء الوطن”