مجدولين لحام
تمتلك إدارة مرفأ بيروت وجماركها رصيداً وافراً من سخط الناس عليهم، وهؤلاء إمّا من فئة المقصّرين أو المرتشين، أو المعيّنين “بالواسطة”. يتعاطى معهم العقل الأمني اللبناني على أنّهم رهائن المحسوبيات، “تلبسهم” التهم متى استدعت الحاجة لتغطية تقصيرٍ ما، أو للمساومة عليهم. ومنذ أربعة أسابيع، وتحت وطأة “التقصير المتراكم وقلّة التدبير”، تعمل شركة “كومبيليفت” الألمانية بموجب عقد طرحته على إدارة المرفأ، على التخلّص من 49 مستوعباً خطراً مخزّنة بعشوائية و”تأكل نفسها” منذ أكثر من 10 إلى 18 سنة… والعقد لا يغطّي كلّ المراحل!
لإدراك مدى “العبث” القائم منذ سنوات في مرفأ عاصمتنا، وفهم كيف تحوّل لبنان، بسبب الإهمال الوظيفي، مقبرة مفتوحة على مصراعيها، يكفي أن تجول مع “نداء الوطن” في رِحاب عنابر الخطر، التي يعمل فيها اليوم بعض من تلاميذ الجامعة ومهندسون ضمن فريق لبناني، تدرّبوا على يد متخصّصين من الشركة الألمانية “كومبيليفت” والتي ستتقاضى 3 ملايين و600 ألف دولار، يسدّد منها مرفأ بيروت 2 مليون فيما يترك المبلغ المتبقّي لرحمة الهبات الأوروبية ووعود الشركة، وذلك لتنفيذها “الجزء الأول فقط من المعالجة”، والجزء الثاني من عملية المعالجة متروك “لبعدين”!
جولة “الأسيد”
في الرصيف رقم 16، أبطال لبنانيون يعملون على التخلص من أطنان من النفايات الخطرة التي تشكل تهديدات هائلة عليهم أولاً، ومن ثم على الصحة والبيئة إذا لم يتم التخلص منها بشكل صحيح. وكميات النفايات السامة التي عاينتها كاميرا “نداء الوطن”، كبيرة جداً، منها ما هو على شكل سوائل قابلة للاشتعال واخترقت المستوعبات الموضوعة فيها وأكلت الحديد والأرض، ومنها ما هو غازات سامة ومؤذية ترى رذاذها بشكل واضح ومؤذ، ومواد ذاتية التفاعل وأخرى معرّضة للاحتراق التلقائي. وهناك أيضاً بطاريات، أو زجاجات “فودكا” والكثير من الحديد المتأكسد والصدئ والمتآكل والمنتجات التي يمكن أن تزيد من المخاطر البيئية.
لاحظنا أن معظم الحاويات عليها رمز الخطر الكيميائي وأغلبها مثقوب أو “مطعوج” أو مهترئ، وهناك غاز قابل للاشتعال وشديد الأذى متروك للأيام الأخيرة بحسب الخبير سليم النجار من “كومبيليفت” الذي واكب “نداء الوطن” في المعاينة الميدانية التي تابعنا فيها عملية معالجة تلك المواد بالوسائل العلمية والطرق الآمنة. والملفت أنه، وفور دخول فريق العمل إلى المرفأ، أعطينا “جزمات” واقية وكمّامات وقيل لنا أنه يجدر بنا شرب الماء بشكل متواصل بسبب الجو البيئي الصعب. وعند اقتراب المصوّر من إحدى الحاويات، كانت هناك بقع “مائية” أو ظُنّ أنها ماء لكن تبيّن أنها أسيد وأحرقت “الجزمة” فوراً، ما يؤكد أن العمل في محيط كهذا أمر في غاية الدقة.
ليس هذا فحسب، بل وجدنا متفجّرات منزوعة الحساسية، ومواد صلبة قابلة للإشتعال تتمّ معالجتها، ومستوعبات متآكلة بسبب مواد تسرّبت من محيطها بفِعل السنوات الطويلة التي مرّت عليها وتركت وأهملت في العنابر من دون حسيب أو رقيب. أحد العاملين في المكان، الذي اختار ألا يفصح عن اسمه، كان يرتدي بزّة واقية كاملة، مع جهاز تنفّس ويشفط المواد السائلة من “حاويات مربعة متوسطة الحجم” كان من المفترض أنها محمية “بقفص” حديدي تآكل كلياً واختلط بالمواد، منه إلى “حاويات مربعة متوسطة الحجم” جديدة جداً. ويشرح لنا “أن كثيرين تلقّوا التدريب على كيفية التخلص من المواد، إلا أن كثراً اختاروا ترك العمل لأنهم لم يتحمّلوا قوّة المواد عليهم”. ويتابع: “أحياناً كثيرة، وبالرغم من ارتدائنا كل هذه البدلات الجديدة والممتازة والمهيّأة لأعمال كهذه، إلا أن عيوننا تدمع بقوة، ونشعر بضيق تنفّس ونضطرّ للتناوب في ما بيننا للتحمّل، فالمواد الموجودة هنا وقد تم إدخالها بمستوعبات منذ سنوات طويلة منها أصغرها عمراً، دخلت لبنان منذ 6 سنوات، وأكبرها منذ 18 و20 سنة من دون معالجة، ومتروكة “لله ورحمته” تماماً كمادة نيترات الأمونيوم الذي كانت نتيجتها مجزرة”.
وقبل أن يتابع حديثه، يشير لنا الى الغاز الواضح الذي يخرج من المستوعب على شكل دخان أبيض. ويقاطع حديثنا شخص آخر ليقول: “إذا جربتم تصوير هذه اللقطة بكاميرا الهاتف “تحترق الصورة” ويتبين لكم كمّ بخار الأسيد الذي يخرج من الأرض والغاز غير المرئي في الهواء خطر!”. ويعود ليتابع الموظف “كلّ من يعمل في المرفأ من أصغرهم إلى أكبرهم، يعلم بأمر وجود هذه المستوعبات، ولإدارة الجمارك صلاحية التصرّف بأي بضاعة متروكة هنا بعد مرور 6 أشهر على وجودها في الباحة، إلا أنّه لا يوجد آلية للإتلاف، ولا يوجد فريق متخصّص قبل تدريبنا، ولسنوات طويلة بقيت المستوعبات في المكان تتآكل ببطء”.
مصائبنا “بالتدريج”
“قاتلنا المجهول، المعروف، هو الإهمال الوظيفي بالدرجة الأولى”، بهذه الكلمات وصف الخبير والمهندس المعالج سليم نجار لـ”نداء الوطن” أنه و”بينما يميل الأمن البحري العالمي إلى التركيز على منع الأحداث البارزة مثل القرصنة أو الإرهاب، فغالباً ما يكون سوء التعامل اليومي داخل المرافئ هو ما يؤدّي إلى الكوارث. وأهم ما يمكن للبنان أن يقوم به لمنع تكرار كارثة انفجار مرفأ بيروت، يكون بتعزيز إدارة المرفأ بأخصّائيين متمرّسين بمعالجة أي مواد خطرة تصل فور مرور 6 أشهر عليها، والتصدّي لجرائم الإهمال. فكان يمكن تفادي كل هذه المسألة لو تمّت مراجعة أصحاب الحاويات المتروكة، لأي سبب كان، للتوصّل معهم إلى حلّ رفع البضاعة عن المرفأ. وإن لم يتوصّلوا إلى حلّ، كان يجدر التعامل بها بالطريقة الآمنة التي نقوم بها الآن، ولكانت التكلفة أقلّ والعملية أسرع، إذ أنّ مشكلتنا اليوم هي في أننا مجبرون على التعامل مع المواد بدقّة متناهية، لِما تشكّل هذه المواد من خطر كبير على البيئة”، وأوضح لنا “كيف يتبين الفرق بين المواد نفسها، حين توضع في المستوعبات الآمنة للنقل، فمنها ما هو أصفر ومنها ما هو أزرق وأسود وأحمر وأورانجي، وذلك بفعل التأكسد والتعرّض للأوكسيجين والهواء، أو بفعل الاختلاط مع الحديد أو تشرّب المواد التي تعرّضت لها”.
غالباً ما يتمّ التخلي عن الحاويات داخل الموانئ، وأحياناً حتّى عن سابق تصميم، ممّا يفتح المجال من دون قصد أمام الأنشطة الإجرامية مثل تهريب النفايات والفساد. ولا بدّ من الإعتراف أنه لو لم يحدث انفجار بيروت، لما أعطيت مسألة التخلّص من هذه المستوعبات الأهمية، وكان يمكن أن تُترك لأشهر وسنوات لاحقة.
وشرح نجّار أنّ فريق عمله التابع لشركة “كومبيليفت” يعمل على تحميل المواد السامة والمواد المهترئة والسامة والغاز وغيرها، وتجميعها ليتم نقلها لاحقاً وإزالتها كليا من الرصيف 16 وإتلاف تلك المواد عبر إعادة تحميلها في حاويات خاصة ستشحن الى خارج الأراضي اللبنانية نحو وجهة أوروبية، حيت سيتم طمرها أو معالجتها بالطرق المناسبة، كلّ منها بحسب مادتها”.
ولكن، وبعيداً من أنّ “الوجهة الأوروبية” التي ستتوجّه نحوها ما زالت غير محدّدة حتى الساعة وبالتالي هناك شكوك حول موافقة أي من الدول الأوروبية على استقبالها… تجدر الإشارة الى أنه وخلال المعاينة الميدانية، كان يبدو واضحاً أن الأرض والأتربة والمياه جميعها قد تضرّرت جرّاء تشرّبها للمواد السامة والخطرة، وأن هناك ارضاً محروقة بالكامل بفِعل الأسيد وتحوّل لونها أسود متفحّماً ومتفتّتاً تماماً، وأتربة أخرى اختلطت بمواد صفراء اللون في غاية الخطورة وتعمل على تآكلها مع كل دقيقة تمرّ، وحتى الباطون والزفت تآكلا، وليس هناك مادة واحدة، بل كثيرة هي المواد السامة التي تعرّضت لها الأرض واختلطت بالماء والهواء. والمشهد المخيف جدّاً لا يدلّ سوى على أنّ المرفأ ما زال في قلب الخطر واحتمال الانفجار البيئي. حيث، وبحسب الأخصائيين، يمكن لهذه المواد الكيميائية أن يكون لها تأثير سلبي على صحّة الأشخاص الذين يتعرّضون لها، وأن تلوّث التربة والمياه والتلّوث الكيميائي للجسيمات التي تفوح في المكان كلّه قد ينتقل جواً مرّة أخرى، ويمكن أن يشكل خطراً على الصحة العامة.
وهنا، سألنا حجّار هل “كومبيليفت” ستعالج جزئية ما بعد رفع المواد، فقال:”لا، بتاتاً، مهمّة الشركة تنتهي عند سحب المواد الخطرة من الموقع ومن المستوعبات المتآكلة إلا أن معالجة التراب والماء والهواء بالطرق الآمنة بعد شحن المواد الخطرة ستكون على عاتق إما شركة أخرى أو إدارة المرفأ”.
بعض النظر عمّا إذا كان مريباً أمر إدارة المرفأ، في تمرير صفقة “كومبيليفت” من خلال شكل إجرائي تُمسك السلطة مفاصله، وعدم استدراج أي عروض أخرى للتأكد من أنّ عرضها هو الأنسب والأرخص، بالرغم من أنه كان لديهم فترة 3 أشهر بين آب والشهر الماضي، أي الوقت الكافي للقيام بذلك، إلى من سيتركون حل الجزء الثاني من معالجة المواد الخطرة والسامة؟ وكم سيكلّفنا ذلك هذه المرّة؟ وماذا ينتظرون لطرح مناقصة خاصة بهذا الأمر؟
“نداء الوطن”