مع ان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس #الراعي لم يترك هامش الاجتهاد قائما امام الانطباعات التي تحدثت عن توليه وساطة او دخوله في مشروع مبادرة على خط مسار التأليف المعطل للحكومة الجديدة، لكن ذلك لم يقلل أهمية دلالات اندفاع البطريرك نحو اكثر المحاولات الداخلية تقدما لكسر جدار الانسداد من خلال تحركه السريع الاستثنائي الواضح سعياً الى إعادة اطلاق الحرارة في التواصل بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري. بطبيعة الحال لا يرقى تحرك البطريرك الراعي الى مستوى مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي افتقده اللبنانيون امس اكثر من أي وقت سابق خشية ان يشكل الغاء زيارته الثالثة للبنان بسبب إصابته بفيروس كورونا، ذريعة إضافية لكل المنخرطين والمتورطين في تعطيل تأليف الحكومة الجديدة او تأخيرها الى امد طويل بعد لحسابات داخلية او خارجية. ومع ذلك تردد على السنة الكثيرين من الأوساط السياسية والشعبية المستعجلة ولادة المحكومة سؤال أساسي هو هل يكون البطريرك الماروني اوفر حظا واكثر حظوة من الرئيس الفرنسي بحيث يعطى له ما لم يعط للرئيس الفرنسي؟ وتاليا ما هو حجم جدية الامال المنتعشة في احتمال تخطي حقل الألغام المنصوب في طريق استيلاد الحكومة من الان وحتى نهاية السنة؟
الواقع واستنادا الى المعطيات الجدية والموثوقة فان الحركة الاستثنائية التي طبعت طريق بكركي – بعبدا ومن ثم بعبدا- بكركي اذ لا يمكن عزل وصول الرجل الثاني في العهد رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل الى بكركي عصر امس بعد نحو ثلاث ساعات فقط من مغادرة الراعي القصر الجمهوري في بعبدا عن هذا الخط بذريعة “استقلالية” باسيل عن الرئيس، هذه الحركة شكلت الاختراق الثاني البارز هذا الأسبوع للمسار المعقد لتأليف الحكومة بعد زيارة رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري اول من امس لبكركي. وبدا واضحا ان ثمة علاقة حيوية ومباشرة بين مجريات المكاشفة الطويلة والمسهبة والتفصيلية التي جرت بين الرئيس الحريري والبطريرك الراعي في بكركي واندفاع البطريرك البارحة للقاء الرئيس عون أولا، ومن ثم مبادرته الى دعوة النائب باسيل للقائه في بكركي، سعيا منه الى الدفع ما امكن لاستعجال اسقاط التعقيدات التي تحول دون ولادة سريعة للحكومة . والحال ان كلام الراعي في قصر بعبدا بعد لقاء الساعة ونصف الساعة بينه وبين الرئيس عون تضمن رسائل مهمة بدا واضحا ان الراعي تعمد من خلالها التحذير بان استمرار الوضع كما هو لم يعد ممكنا، ولن يستقيم كذلك من دون مزيد من التداعيات البالغة الخطورة. وابرز هذه الرسائل تمثل في تكراره مرات عدة وجوب استعجال تشكيل الحكومة استنادا الى تمسكه بالأصول الدستورية في التاليف وليس أي قناة أخرى. كما ان الرسالة الأخرى البارزة جاءت في معرض موقفه الواضح من عدم دستورية موضوع الثلث المعطل “الدخيل” ولو ان ذلك جاء في معرض نفيه تمسك رئيس الجمهورية بهذا الشرط الذي يدرك البطريرك كما الجميع انه كان ولا يزال احدى العقد الأساسية في طريق تأليف الحكومة. اما الرسالة الثالثة فاكتسبت دلالة خاصة لجهة ظهور اقتناع البطريرك ضمنا بان التركيبة الحكومية يجب ان تتطابق مع مواصفات حكومة الاختصاصيين غير السياسيين والحزبيين.
التشكيلة الحريرية
وتكشف المعطيات المتوافرة في هذا السياق ان موقف الراعي الذي بدا هنا اقرب ما يكون الى موقف الحريري من التشكيلة الحكومية جاء بعدما تبينت للبطريرك عدم صحة ما تردد عن تسمية الحريري للوزراء المسيحيين وحده وان الحريري اطلع الراعي تفصيليا على دقائق الأمور والتركيبة الكاملة بالاسماء والحقائب، وبدا للراعي ان الحريري صادق في توجهاته وانه استند الى المعطيات الجدية وليس الى أي شيء آخر. ومع ذلك لا يمكن القول انه من المضمون ان تؤدي حركة البطريرك الى اختراق وشيك في التاليف ولو أحدثت خرقا في المناخ السياسي. اذ ان المعلومات المتوافرة عن موقف بعبدا بعد الزيارة لا توحي بتغيير في الاشتراطات التي وضعتها بدليل ان البطريرك الذي دعا باسيل الى بكركي إدراكا منه لطبيعة الدور الحاسم الذي يلعبه في هذه الاشتراطات سمع من باسيل تكرارا لمعزوفة المعايير الموحدة بعد تجاهل موضوع الثلث المعطل.
وذكر ان الرئيس عون كان عرض للبطريرك معطياته وشدد على ضرورة تأليف حكومة قادرة على الإصلاحات والعمل والسير في التدقيق الجنائي. وأفادت هذه المعطيات ان الراعي تمنى على عون استئناف التواصل بينه وبين الحريري وانه أي البطريرك حاضر لاي شيء يطلب منه وعندها اكد له رئيس الجمهورية الا مشكلة مع الرئيس الحريري ويمكن التواصل بينهما في أي لحظة.
وشدد البطريرك الراعي بعد اللقاء مع عون على “التفاهم النهائي بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف وفقا للدستور”. وقال انه لا يدخل في التفاصيل بل “نحن ننطلق من المبدأ الذي ينص على ان الرئيس المكلف يحضر تشكيلته وعليه ان يأتي الى رئيس الجمهورية للتشاور معه كي تصدر الحكومة”. وبدا لافتا قوله انه “لم المس ان رئيس الجمهورية متمسك بالثلث المعطل خصوصا ان هناك اتفاقا ورأيا عاما يقومان على وجوب الا تكون الحكومة سياسية ولا حزبية بل تتكون من اختصاصيين غير مرتبطين باي حزب”. وكانت له إشارة لافتة الى ان “الثلث المعطل غير موجود في الطائف ولا في الدستور وهو دخيل لا لزوم له”.
اما باسيل وان اكد بعد زيارته لبكركي التوافق على تأليف الحكومة بسرعة شدد على وحدة المعايير في التاليف وقال انه” لم يطرح أي شرط سوى التعامل بالتساوي وعندما يصبح هناك نية باعتماد معايير واحدة تتشكل الحكومة”.
رامبلينغ :ستحاكمون
وسط هذه الأجواء برز موقف للسفير البريطاني المغادر لبنان نهائيا كريس رامبلينغ عبر كلمة وجهها على صفحة السفارة البريطانية في بيروت واعتبر فيها ان “شعب لبنان يستحق افضل من هذا”. وقال “ندائي الأخير الى أولئك القادة والموظفين الحكوميين والخبراء الماليين ورجال الاعمال: لبلدكم أصدقاء. نحن نحب شعبكم ولكن انتم وليس نحن من يمسك بزمام السلطة. وأنتم اكثر من كل القادة ستذكرون وستحاكمون على ما فعلتم في اكثر الأزمنة الحاحا”.
“النهار“