منير الربيع
يعيش لبنان سباقاً بين الانهيار والانفجار. وكلا الحالين حتميان بالنسبة إلى القوى السياسية التي لا تزال تتصارع فيما بينها. والمفارقة أن كل المتصارعين لا يبحثون في التسابق على من ينتج حلاً، أو يقدّم تنازلاً من شأنه أن يضع البلاد على سكة تفترض حلّاً، ولو طويل الأجل. غاية الصراع هي تقاذف المسؤوليات وشن حروب شعبوية لإبعاد التهم عن النفس وإلقائها على الآخرينز وقد شهد لبنان مراراً مثل هذه الأزمات التي آلت إلى نتائج أليمة.الانهيار والانفجار نتيجتان تتكاملان بعضهما مع بعض، إذ أن الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي يؤدي إلى انفجار اجتماعي بارتدادات أمنية. ونتائج الانفجار الأمني لها المفاعيل ذاتها اقتصادياً وسياسياً.
كل أنواع الوقود متوفرة لإذكاء نار الصراعات. شحن طائفي ومذهبي على خلفية تفجير المرفأ والتحقيقات الجارية فيه. رسم خطوط حمر بين أمراء الطوائف ورجال الدين. فما انطبق على رئاسة الجمهورية والخطّ الأحمر الذي رُسم حول الرئيس إثر المطالبات باستقالته، لم يبق حكراً على المسيحيين. شهدت الساحة السنية مثله في التضامن مع رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، بعد الادعاء عليه بجريمة تفجير المرفأ. لدى الجانب الشيعي الخطوط الحمر الثخينة مرسومة من قبل. وفي الأثناء، الانهيار مستمر، من نقاشات رفع الدعم، إلى أزمة الدولار والتحضير لتظاهرات رافضة لهذه الإجراءات. أما الانفجار فقد دخل السباق بفعل عوامل التطييف والمذهبة، والتي قد تؤدي إلى أحداث أمنية متفرقة ومتنقلة، تعيد شد العصب المذهبي والطائفي بين الجماعات، وفي مختلف المناطق.
تعرف القوى اللبنانية المتجذرة كيفية إلهاء الناس في شعارات طائفية ومذهبية، بإثارة النعرات، وفتح بازار ملفات الفساد أو الارتكابات، فيصبح كل ملف مقابل الآخر بين القوى المتقاتلة. لكن هذا كله يكشف حجم الخراب. فهذه الأجواء التي يعيشها لبنان تؤكد أن البلاد تذهب نحو الأسوأ، لأن القوى السياسية تغرق وتختنق، ولا قدرة لها على التنفّس إلا باللجوء إلى هذه اللعبة الخطرة والمدمِّرة، بينما كثيرون، محلياً وخارجياً، باتوا مقتنعين بأنه لا يمكن الحديث عن حلول قبل وقوع الانهيار الكامل والشامل.
تقدمت المبادرة الفرنسية كحبل خلاص للقوى السياسية، لكنهم لم ينجحوا في التعاطي معها بإيجابية، ولم يتمكنوا من التفاعل مع مندرجاتها، علماً انها تراعي وجودهم ومصالحهم. هذه المبادرة تختلف بشكل جذري عن المسعى الأميركي، الذي سيكون أقسى عليهم فيما بعد. ومن هنا يقول مسؤولون أميركيون إن الطبقة السياسية في لبنان قد انتهت، ولا بد من البحث عن البدائل. هذا الاستنتاج يؤدي إلى البحث عن كيفية الاستثمار في هذه البدائل، ما بعد الانهيار الشامل. لكن أي طرح من هذا القبيل ستواجهه القوى السياسية بشراسة وبمزيد من التشرذم والانقسام والتطييف.
في الأفق، هناك تغيّر حقيقي تشهده المنطقة، وله أبعاد جيوستراتيجية، أبرزها مسارات التطبيع، والضغط الذي تتعرض له مناطق النفوذ الإيراني، والتي ستدفع في النهاية ثمن التسوية بتنازلات أساسية، لاسيما أن الضغط الأميركي لا يجد معارضة، لا من قبل الروس ولا من قبل الصينيين مثلاً. هذا الواقع يدفع بلبنان إلى السباق بين الانهيار وبين الرهان الذي له طابع فانتازي يأمل حصول “عجائب” أو معجزات للجمه، وتعيد بها القوى السياسية تعويم نفسها، بل حصل ويتخيلون “عجيبة” سياسية إقليمية ودولية تأتي وتضخ مليارات الدولارات لإعادة إنتاج النظام اللبناني!
لكن في الواقع، السباق بين الانهيار والانفجار هو الحقيقة السائدة، وفي خضمه لن يكون هناك أي قدرة على ضبط الأمور. سيستمر التفلت والترهل، من دون أي مسعى جدّي للبحث عن معالجة. وهذا ما يدفع القوى السياسية الطائفية إلى التقوقع أكثر فأكثر، بحثاً عن تشييد أنظمتها الخاصة على بقعها المذهبية والجغرافية، في سبيل توفير مقومات الصمود. هذه كلها لن تؤدي إلى حلول جذرية، إنما تخفف من وقعها نسبياً، رغم أنها ستنعكس سلباً داخل البيئة الواحدة، خصوصاً داخل بيئة حزب الله مثلاً، حين لا يتمكن الحزب من توفير كل مقومات الصمود لكل أبناء الطائفة. فغير المستفيدين سيكون لديهم ردّ فعلهم. وهذا ينطبق أيضاً على البيئات والطوائف الأخرى. ما سيؤدي على المديين المتوسط والبعيد إلى تفكك البنى الاجتماعية التي تتمترس خلفها القوى السياسية.
“المدن”