حسام عيتاني
الموجة الثانية الوشيكة من الانهيار الاقتصادي والسياسي في لبنان قد تكون أشد وقعاً على معيشة المواطنين وأقسى عليهم بحيث يصير تدبير أمورهم اليومية مهمة صعبة. وليس مستبعداً أن تشهد الاحتجاجات المقبلة أعمال عنف يسقط فيها ضحايا وتُدمَّر ممتلكات من دون أن يحمل ذلك في طياته أملاً بقرب نهاية الكابوس المستمر منذ أكثر من سنة.
مقدمات المرحلة المنتظرة من الكارثة باتت قيد التداول اليومي. انتقل الحديث عن رفع دعم المواد الاستهلاكية الأساسية إلى حيز التنفيذ بقرار من أصحاب المطاحن الامتناع عن تسليم أفران المناقيش والحلويات الدقيق بالسعر الرسمي وتحريره وفق مصلحتهم، من دون أن تفلح أجهزة الدولة في لجم هذا السلوك. تقول الدراسات إن الانكماش الاقتصادي الذي يتراوح بين 19 و25% (النمو السلبي) سيترك آثاره على أكثرية اللبنانيين على شكل اضمحلال قدرتهم على توفير الغذاء والدواء والتعليم والاستشفاء وصولاً إلى انتقال فئات واسعة منهم تصل إلى 60% إلى صفوف الفقراء. وتحفل الصحف والمواقع الإخبارية بلوائح الأسعار المرتقبة بعد رفع الدعم الذي يدفع في اتجاهه المصرف المركزي وحاكمه وقسم من الجماعة الحاكمة، وهي أسعار خرافية بمعايير الحد الأدنى للأجور الذي أصبح أقل من مائة دولار شهرياً.
وصار من الماضي كل انتظار لتحسن الأحوال أو لاستعادة العملة الوطنية بعض قيمتها أو لانفراج مهما كان بسيطاً وجزئياً في يوميات البلد. التفاؤل سمة مَن لا يدرك عمق ما جرى وخطره، ومَن لا يعرف وضع لبنان في محيطه وفي العالم، ومًن يعد الكذب والإمعان في بيع الأوهام سلاحاً مباحاً في معاركه السياسية الصغيرة.
في المقابل، سيواجَه تجدد الاحتجاجات والمظاهرات بذات الأساليب والأدوات التي أثبتت نجاحها منذ 17 تشرين الأول 2019: القمع الأمني المنظم واختراق المجموعات الشبابية وتطويعها وافتعال صراعات بين بعضها، وهذا أسهل الطرق. التهويل بالحرب الأهلية وسط اتهامات للناشطين بالعمالة والخيانة وتلقي التمويل الأجنبي قبل دفع حشود شباب الأحزاب ومرتزقتها – من مختلف ألوان الطيف اللبناني – إلى الاعتداء على المتظاهرين وقتل بعضهم «خطأً»، على جاري العادة. واستحضار لغة الخوف الطائفي والتلويح باغتيالات ومخططات لتهجير الطوائف من مناطقها… يضاف إلى ذلك، امتناع الجماعة المتسلطة عن اتخاذ أي إجراء، مهما كان بسيطاً وبدهياً، على سبيل إصلاح أو ترميم مُجدٍ للنظام الاقتصادي والسياسي. فها قد دخلنا الشهر الخامس من دون حكومة بعد استقالة حسان دياب ووزرائه بعد انفجار الرابع من آب ويجري تسيير البلد بنوع من القرارات الهمايونية مجهولة الأب والأم.
المرحلة الثانية من الانهيار قد تكون شديدة القسوة على اللبنانيين العاديين، لكنها لن تزعزع الطبقة الحاكمة وإمساكها بأعنّة السلطة. المفارقة أن السياسيين يسندون اطمئنانهم المفرط إلى الثقة. ليست تلك التي يتحدث عنها المصرفيون بعدما سطوا على مدخرات المودعين، بل ثقة تعتمد على تجربة تاريخية غنية تفلح في كل مرة، ومهما ارتفعت حرارة التوتر الاجتماعي والسياسي، في جرّ اللبنانيين إلى خنادق الاقتتال الطائفي والمذهبي. ولن تكون الشهور المقبلة استثناءً. ذاك أن خطاب الكراهية والاحتقار المتبادل بين الطوائف في أحسن أيامه بعدما أُضيف إليه مصطلح الفساد الذي يتبادله السياسيون بمهارة حيث يلمح المروجون له إلى طوائف فاسدة ما يضمن إثارة حساسية الجموع ويُعلي زعيق مظلومياتها. تثق القيادات السياسية، إذن، بجماهيرها وبأن هذا الوعي الطائفي سيصمد أمام النكبة المقيمة وأن المظاهرات وانتحار الجائعين والعاطلين عن العمل والبحث عن مسرب للهجرة من لبنان ولو على قارب مطاطي، لن تشكّل تحدياً يُذكر للخوف والسلاح والكراهية وللإعلام الفاسد الذي يتقن التجارة بعواطف ومصالح ملايين اللبنانيين المتعطشين إلى الانتقام من عدو يقيم على بُعد شارعين ويشاركهم فقرهم وبؤسهم… وعبادتهم لزعيم معصوم وانتظارهم البطاقة التموينية الموعودة منه ومن ممثله في الحي الذي لا تمر به الكهرباء إلا لماماً وتُغرقه مياه الأمطار شتاءً والمجاري صيفاً.
لم يظهر بعد عام ونيف على انتفاضة عارمة أن ثمة ما يجمع اللبنانيين إلى ما بعد عودتهم إلى بيوتهم من مظاهراتهم المليونية. فما إن يدخل المواطن باب بيته حتى يرجع ذلك الكائن الخائف الساعي إلى طمس ذعره بالاستقواء بالسلاح حيناً وبمظلومية الأقليات حيناً آخر. وما إن يبزغ فجر يوم جديد حتى يكون اللبناني قد شفي من عوارض الانتماء الوطني واستعاد استعلاءه المذهبي.
أما الانتصارات الطالبية في الانتخابات الجامعية وملاحقة السياسيين والمصرفيين وطردهم من المقاهي والمطاعم، فهي سنونوات جميلة وصغيرة، لكنها لا تصنع الربيع.
“الشرق الأوسط”