ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، قداس عيد مار نيقولاوس، في حضور حشد من الفاعليات والمؤمنين.
وبعد الانجيل المقدس، ألقى عودة عظة قال فيها: “نعيد اليوم لقديس يكاد لا يخلو بيت أرثوذكسي ممن اتخذه شفيعا له أو تسمى بإسمه، أعني القديس نيقولاوس، رئيس أساقفة ميراليكية العجائبي. لن أدخل في سيرة القديس، التي يمكن أن نقرأها في كتب سير القديسين، لكنني سأضيء على بعض الجوانب من حياته، حتى نتعلم منها”.
أضاف: “إسم القديس نيقولاوس يعني غلبة أو إنتصار الشعب. لقد عاش القديس نيقولاوس بحسب إسمه، ووقف إلى جانب كل مظلوم وفقير جالبا الغلبة للشعب المقهور. مرة، حكم الملك قسطنطين على ثلاثة ضباط بالإعدام، فظهر له القديس نيقولاوس في الحلم طالبا منه إيقاف الحكم لأن الرجال الثلاثة مظلومون. الله وقديسوه لا يرضون بالظلم، بل بالعدل والعدالة، اللتين قد ينساهما البشر، إلا أن الرب عادل ورحيم ويعلمنا محبة الجميع وإنصافهم. نقرأ في سفر اللاويين: “وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه، كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم، وتحبه كنفسك” (19: 33).
دائما يتدخل الله من أجل تعليم البشر كيف يحبون وينصفون، ومن أجل تذكيرهم بأن فوق كل من يعتبر نفسه كبيرا على هذه الأرض عدالة إلهية. نقرأ في سفر الجامعة: “إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد، فلا ترتع من الأمر، لأن فوق العالي عاليا يلاحظ، والأعلى فوقهما” (5: 8). في بلادنا، يحاولون إقناعنا بأن الظلم الذي يمارس على الشعب هو العدالة، ويظنون أن سلطة الأموال التي جمعوها ظلما ونهبا تعطيهم الحق في قمع الشعب واستعباده، لكننا نجيبهم بلسان يشوع بن سيراخ في كتاب الحكمة: “لا تعتد بأموال الظلم فإنها لا تنفعك شيئا في يوم الإنتقام” (5: 10)”.
وتابع: “القديس نيقولاوس عاش الوصايا الإلهية، خصوصا ما نقرأه في سفر إرمياء النبي القائل: “هكذا قال الرب: أجروا حقا وعدلا، وأنقذوا المغصوب من يد الظالم، والغريب واليتيم والأرملة” (22: 3)، فهل هناك من يسير على خطاه اليوم؟ أم أصبحنا في زمن أصبح الظالم فيه صاحب حق، والمظلوم محكوما عليه بالرضوخ والقبول؟
مرة أخرى، إستخدم القديس نيقولاوس المال لمساعدة ثلاث بنات، أراد والدهن أن يجعلهن يعملن في تجارة الزنى، بسبب ما وصل إليه من الفقر. عندما عرف القديس صار يأتي خلسة، ويترك المال عند باب الرجل، لكي يستخدمه من أجل تزويج بناته. هكذا انتشل القديس البنات من الخطيئة نحو عيش الفضيلة”.
وأردف: “الرب يرسل التعزيات إلى محبيه بطرق مختلفة، ونحن البشر إحدى تلك الطرق، لأن الرب يمنحنا دائما الوسيلة من أجل المساعدة. لذلك، نسمع الرب يقول في إنجيل اليوم: “طوبى لكم أيها المساكين، فإن لكم ملكوت الله. طوبى لكم أيها الجياع الآن، فإنكم ستشبعون. طوبى لكم أيها الباكون الآن، فإنكم ستضحكون. طوبى لكم إذا أبغضكم الناس وأفرزوكم وعيروكم ونبذوا اسمكم نبذ شرير من أجل ابن البشر، إفرحوا في ذلك اليوم وتهللوا، فهوذا أجركم عظيم في السماء”. المساكين والجياع والباكون والمبغضون والمفروزون والمعيرون سيعزيهم الرب، مثلما عزاهم قديما عن طريق القديس نيقولاوس. يقول الرب لخائفيه، على لسان يشوع بن نون: “لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك. كما كنت مع موسى أكون معك، لا أهملك ولا أتركك” (1: 5). وحده الله لا يهمل محبيه، أما البشر فيتسلطون، وعندما ينالون مرادهم يهملون أتباعهم وقد يسيئون معاملتهم”.
وقال عودة: “لقد تعلمنا طيلة الفترة السابقة من هذا الصوم الميلادي المقدس عن الغنى والمال، وكيف بإمكانهما أن يوصلا صاحبهما إلى الهلاك، أما اليوم، فيأتينا عيد القديس نيقولاوس ليرشدنا إلى طريقة نافعة نستخدم بها المال، أعني الإحسان إلى المحتاج لانتشاله من يأسه الذي قد يؤدي به إلى هلاك الخطيئة. نماذج المتمولين في بلدنا، الذين اغتنوا من مال الظلم، أوصلت المواطنين إلى هوة اليأس والموت. واليوم يطالبون هم أنفسهم بما يسمونه التدقيق الجنائي. ترى، هل سيقبل الظالم بفضح ظلمه، أو السارق بإظهار سرقته؟ للأسف هم الخصم وهم الحكم. يحذر الرسول بولس في رسالته الثانية إلى تلميذه تيموثاوس قائلا: “إعلم هذا، أنه في الأيام الأخيرة ستأتي أزمنة صعبة، لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم، محبين للمال، متعظمين، مستكبرين، مجدفين، غير طائعين لوالديهم، غير شاكرين، دنسين، بلا حنو، بلا رضى، ثالبين، عديمي النزاهة، شرسين، غير محبين للصلاح، خائنين، مقتحمين، متصلفين، محبين للذات دون محبة لله، لهم صورة التقوى، ولكنهم منكرون قوتها” (3: 1-5). ما نعيشه اليوم من أزمنة صعبة هو بسبب تكاثر هذه الفئات التي تحدث عنها الرسول. فما أحوجنا إلى أناس يتمثلون بالقديس نيقولاوس الذي كان “قانونا للايمان، وصورة للوداعة، ومعلما للامساك”، كما نرتل له، فأحرز بالتواضع الرفعة وبالمسكنة الغنى. القديس نيقولاوس ساعد المحتاجين والمتألمين، أما زعماء بلدنا فحولوا الجميع إلى محتاجين، وجعلوا الجميع يتألمون. العالم فقد ثقته بلبنان بسبب فسادهم الذي جعلوه قانونا، ومحاسبة تهربوا منها ودفنوها، فأزهر الظلم ويبست العدالة. سقوا كل روافد الدولة من ماء فسادهم، فأقحل الوطن لعدم توافر نبع عذب يروي عطشه إلى الحقيقة والعدالة والإزدهار. فإلى متى ستمعنون الطعن في خاصرة وطنكم، بخنجر عدم ولائكم له، واستهتاركم بواجباتكم تجاهه؟ لم يبق إلا أشلاء وطن، وما نحن بحاجة إليه هو تحرير ما تبقى من الوطن من قبضة السياسيين، وسوء إدارتهم، وقلة إحساسهم بالمسؤولية وبفداحة الوضع الذي أوصلونا إليه”.
وأضاف: “لقد كان القديس نيقولاوس مدرسة في العطاء لا الأخذ، أما زعماء الأرض فمدرسة في الأخذ، وفي الجشع. سفينة لبنان تغرق، وستغرق الجميع معها إن لم يتم إصلاح الثقوب فيها. لذلك، يا أحبة، إن اخترتم اتباع أحد، فلا تختاروا غير الله، لأنه الوحيد القادر على خلاصكم، بشفاعات القديس نيقولاوس، المنجي من الغرق.
ختاما، أود أن أروي لكم القصة التالية التي رواها القديس بورفيريوس الرائي، الذي عيدنا له منذ أيام. قال: “كان هناك دير شاخ رهبانه وماتوا، ولم يبق منهم سوى واحد كان أميا، لكنه يتمتع بإيمان قوي وبسيط. عندما كان يقوم بأعماله وبكل الخدم الطقسية، كان يؤمن بأن المسيح والقديسين أحياء، وهم في صحبته. لذا، كان يتحدث معهم باستمرار، كما نتحدث مع بشر أحياء. ذات يوم، خرج من الدير، فدخله اللصوص، وسرقوا كل ما وجدوه، وحملوه على دوابهم ورحلوا. لما عاد الراهب ووجد الدير فارغا اضطرب، فأسرع إلى الكنيسة التي كانت مكرسة على إسم القديس نيقولاوس، ووقف أمام شفيع الدير وقال: “يا قديسي نيقولاوس، ماذا جرى هنا أثناء غيابي؟ قد أتى أشرار وسرقوا الدير، وأنت كنت تنظر إليهم ولم تحرك ساكنا؟ ماذا فعلت من أجل منع اللصوص؟ أرى أنك لم تفعل شيئا. إذا، أنت لا تستحق هذا المكان الذي تشغله، لأنك لم تحم الدير، سأخرجك من هنا”. وللحال، نزع الأيقونة من الإيقونسطاس، وحملها إلى خارج الدير، ووضعها على صخرة، وأقفل الباب. لم تمض ساعة، حتى سمع طرقات قوية على الباب الخارجي. فتح الباب، وإذا باللصوص مع الحيوانات المحملة بالمسروقات يقولون له: “لقد سرقنا الدير، وفيما كنا ذاهبين كانت الحيوانات تسير بشكل عادي، وفجأة توقفت ولم تعد تتقدم. أخذنا نضربها ونجرها، لكنها بقيت من دون حراك، ثم استدارت إلى الخلف، وأخذت تجري. فقلنا يبدو أن الله يريدنا أن نعيد المسروقات. وها قد أحضرناها. أخذ الراهب الأغراض. وبعدما رحل اللصوص شكر الله، وإذاك تذكر أيقونة القديس، فذهب إلى الصخرة حيث وضعها وسجد لها وقال: “الآن، أعود وأقبلك أيها القديس نيقولاوس. فأنت حامي الدير”. وحمل أيقونة القديس باعتزاز، وأعادها إلى مكانها”.
وختم عودة: “بارككم الرب، ومنحكم حكمة وصبرا ووداعة وتواضعا، على مثال ما منح للقديس نيقولاوس، لأننا بلا هذه الفضائل الأربعة، لن نصل إلى ميناء الراحة سالمين، آمين”.