ليس مضموناً ان تكون لمؤتمر دمشق الدولي الخاص بالنازحين اي نتائج عملية، فهو انتهى كما بدأ، بمقاطعة غربية وخليجية وفي حضور ممثلي محور الممانعة الممتد من الصين الى فنزويلا، وما بينهم لبنان والعراق، وجاءت توصياته «الاتهامية» للمجتمع الدولي، لتعكس نتائجه المتواضعة. لكن الابرز ما عكسه المؤتمر عن الوضع في سوريا، فظهر انّ موسكو تُمسك بالجو وايران تُمسك بالأرض. فما المؤشر الى هذه المعادلة؟
لم يكن في حسبان اي من المراقبين على انواعهم، وممثلي الامم المتحدة والهيئات الانسانية المختلفة، الذين يتابعون تطورات الأزمة السورية، اي توقعات توحي بإمكان ان تكون للمؤتمر نتائج افضل من تلك التي انتهى اليها. فالقوى التي تتقاسم النفوذ والسيطرة على الاراضي السورية ليست متفقة على توجّه واحد، لا على مستوى الجهود المبذولة من اجل الحل السياسي، ولا على المستوى الدستوري، بعد فشل كل الجهود التي بُذلت من اجل المصالحة وتوليد الدستور السوري الجديد.
على هذه الخلفيات، يتطلع المراقبون الى ما سبق مؤتمر دمشق للنازحين، وتلاه من جوانب مختلفة، اولها انساني – اجتماعي، وثانيها عسكري ـ استراتيجي، بالإضافة الى الإنقسام الحاد بين محوري النزاع على الساحة السورية: الحلف الدولي في مواجهة الارهاب من جهة، ومحور المقاومة او الممانعة كما يسمّيه البعض، وهو ما تدفع ثمنه الساحة السورية من تقاسم للنفوذ بدا يقارب الانفصال بين المناطق التي تتوزع فيها السيطرة على القوى الاقليمية والدولية.
على المستوى الانساني والاجتماعي، فقد انعقد المؤتمر في توقيته وما اريد منه في اسوأ الظروف. فموسكو التي رعته، سعت بداية ومنذ اكثر من اربعة اشهر الى توفير مشاركة دولية شاملة تحت عناوين انسانية واجتماعية، بفعل وطأة انتشار جائحة الكورونا والامراض السارية المعدية التي هدّدت مخيمات النازحين من ضمن الاراضي السورية في الصيف كما في الشتاء بلا جدوى. ولمّا سعت الى نقله من دمشق، بفعل المقاطعة والحصار الذي يعانيه النظام، الى «نور سلطان» عاصمة اذربيجان، اصطدمت برفض النظام وايران، في موازاة تلقيها موقفاً من الاتحاد الاوروبي ودول الخليج العربي والدول المانحة، التي رفضت البحث في ملف النازحين قبل الحل السياسي المفقود.
وتعترف اوساط ديبلوماسية، انّ العالم تفهم السعي الروسي لنقل المؤتمر الى خارج دمشق، وقدّرت توصيف موسكو للوضع الانساني، فرفعت من مستوى التقديمات والخدمات للنازحين دون المرور في المؤسسات الحكومية على غرار ما هو قائم في لبنان. ولكن، وتنفيذاً لقرارات وتوصيات منظمة الصحة العالمية ومؤسسات الامم المتحدة لشؤون اللاجئين، بمعزل عن الطلب الروسي، ساوت في خدماتها بما هو قائم في دول الجوار السوري الأربع الاردن، العراق، لبنان وتركيا، بعدما نالت هامشاً واسعاً من الحركة التي لم تكن مسموحة قبلاً في مناطق سورية مختلفة، فيما تكفلت الدول البعيدة التي تستضيفهم، بما يلقاه مواطنوها وبقية اللاجئين من خدمات، فهي من الدول المقتدرة والتي تمتلك قوة اقتصادية كبيرة، استغنت بوجودها عن مساعدات المنظمات الدولية والاممية.
اما على المستوى العسكري، فقد ظهر جلياً لدى المراقبين والخبراء العسكريين الغربيين، تقصير موسكو أو فشلها في إدارة الجانب المتصل بأزمة اللاجئين والنازحين السوريين. فرغم محاولاتها الدؤوبة لتجميد العمل بالقوانين السورية الجديدة، ولا سيما منها تلك التي تتصل بجعل استعادة العائدين لعقاراتهم من منازل او اراض، رهناً بموافقة اجهزة الأمن السياسي والقومي. هذا عدا عن الفرز المذهبي الذي بات امراً واقعاً في مناطق عدة تشهد اعادة توطين غير سوريين وتمنع السكان الاصليين من العودة اليها. كذلك لم تفلح في وقف الاجراءات المالية المفروضة على العائدين عند المعابر البرية والبحرية والجوية، لجهة فرض استبدال مبالغ محدّدة من الدولار الاميركي بالليرة السورية بالسعر الرسمي المعتمد لدى المصرف المركزي. ويُضاف الى ذلك فشل مساعيها المبذولة منذ سنوات عدة لتوليد الدستور السوري الجديد، بعدما استشارت موسكو الامم المتحدة لهذه الغاية وجنّدت خبراءها وممثلين عمّا يسمّى «المعارضة السورية» التي تنال رضا موسكو واقرّ بها النظام، لإنجاز المهمة تحت وطأة الضغوط الاممية والروسية.
ولا يتجاهل المراقبون فشل المؤتمر في توفير آليات للعودة التي يمكن تطبيقها، ربطاً بالمعاناة السورية الداخلية، نتيجة تدهور سعر صرف الليرة والغلاء، بالإضافة الى فقدان المواد الغذائية كالطحين والمشتقات النفطية على انواعها، رغم التقنين الرسمي الصارم المعتمد. وان كانت كل هذه الامور غير متوافرة لثلثي الشعب السوري الموجود في مناطق «سوريا المفيدة»، فكيف يمكن توفيره لملايين العائدين ان تمّت العودة المحكي عنها وفق الخطة الروسية السابقة او تلك التي اعتمدتها مؤسسات الامم المتحدة والتي لم تبصر النور بعد، في ظلّ شح الموارد المالية التي تحتاجها ورفض الجهات الدولية لها قبل الحل السياسي الضامن، الى حين تغيير النظام او تطويعه وترميم العلاقات معه.
وبالإستناد الى كل ما تقدّم، لم يكن متوقعاً ان ينتهي المؤتمر الى اي من الخطوات العملية. وما زاد في الطين بلّة، اعتماده في توصياته الهجوم العنيف على المجتمع الدولي، بعدما حمّل المؤتمرون واشنطن ودولاً عدة تقاطع النظام ولا تعترف بشرعيته، مسؤولية الأزمة في ظلّ العقوبات المفروضة بموجب «قانون قيصر» – رغم حداثة تطبيقه قبل اشهر قليلة – وما سبقه من عقوبات طاولت شخصيات من اركان النظام ومؤسساته الاقتصادية والمالية والاستثمارية، فقطعت صلاتهم بالخارج، بحيث لم يعد من مفر امامهم سوى الساحة اللبنانية لاستباحة العملات الاجنبية منها ونقلها بوسائل غير شرعية الى الداخل، فرفعت من الأزمة المتفاقمة في البلدين، وزادت منها قدرة البعض في سوريا على ممارسة كل اشكال المضاربة لشراء الدولار من مناطق لبنانية مختلفة وصولاً الى قلب بيروت وضواحيها ومناطق اخرى تجاوزت حدود البقاعين الشمالي والاوسط وشمال البلاد.
والى كل هذه المعطيات، وبعيداً عن كثير من التفاصيل، فقد اظهرت الظروف التي رافقت المؤتمر الى حين انتهائه، انّ موسكو لم تتمكن بعد من إعادة الصلات بين النظام والمؤسسات الدولية، وفشلت في ضمان ابسط قواعد العودة لو اراد النظام ذلك. وفي المختصر المفيد، فقد ظهر انّ موسكو تُمسك بالأجواء السورية التي تسمح بالغارات الاسرائيلية المتكرّرة على اهداف هي تحدّدها، وبمحيط مواقعها الجوية والبحرية والبرية، فيما الأرض بقيت في يد النظام وايران وحلفائهما. وهو ما ادّى الى انهيار كثير مما اقترحته من إجراءات، فيما بدا واضحاً انّها لا تتدخّل في المناطق التي تخضع للسيطرة التركية الامنية والاقتصادية والمعيشية، ولا في المناطق الغنية بالنفط، التي هي في حوزة القوات الاميركية وحلفائها، مع التمايز الذي تحظى به الاراضي التي يسيطر عليها الاكراد، واستعادت جزءاً من النفود الإداري للنظام السوري.