الخبر بالصوت

لن يُعزّي الأرمن كثيراً القول إن شعوباً أخرى على مرّ التاريخ خسرت أراضي وذكريات وتراثاً وقبور أجداد بفعل القوة والهمجية، وإن خسارتهم “أرتساخ” (ناغورني قره باخ)، التي انتُزعت منهم في زمن الديكتاتور ستالين ليست أكثر ايلاماً من تشريد الشعب الفلسطيني وخسارته أرض فلسطين على يد الصهاينة والمستوطنين. فالجمرة لا تكوي إلا مطرحها، و”الظلم في السوية” لا يمنح المحتلين شرعية، فكيف اذا استباحوا المناطق المحتلة بقوات “إنكشارية” داعشيين؟

دفع الأرمن ثمن “الجيوبوليتيك” رغم أنّهم يشكلون 95 في المئة من سكان الإقليم. ولعلّ تعبير “لعبة الأمم”، المستعمل عادة لتجهيل الفاعل والمجرمين، ينطبق على ما حلَّ بالإقليم حيث تضافرت تواطؤات إقليمية ودولية جاعلةً منه لقمةً سائغة للأذربيجانيين، وسط مراوحة ردود الفعل بين صمتٍ وغض طرفٍ غربي أو خبثٍ روسيّ منهجي. وإذ تتحمّل سياسات “يريفان” حتماً بعض المسؤولية في فشلها بنسج تحالفاتٍ واقعية فاعلة تحمي خطوة استعادة الاقليم بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، فإنّ السبب الحقيقي يبقى استمرار سياسة القوة عاملاً حاسماً في العلاقات الدولية، واضطرار الحقّ الى حماية دائمة ومفقودة في مواجهة ذئابٍ اقليمية أو دولية كاسرة.

اسوأ ما في قضية “أرتساخ” أنّها ليست مجرّد نزاعٍ حدودي أو على مناطق تداول على حكمها طرفان أو أكثر في حقباتٍ تاريخية متعدّدة. هي جرحٌ عميق قابل للالتهاب وقادرٌ على فتح جروح التاريخ السحيق، خصوصاً أنّ الجانب الأذري سارع قبل جمع جثث الطرفين وتثبيت وقف نار نهائي، بلسان وزير ثقافته، الى إعلان وجوب “تعديل” طبيعة كنائس تاريخية بعضها يعود الى القرن الأول المسيحيّ وموضوعة على لائحة التراث العالمي، معتبراً انها جزء من التاريخ الأذري الاسلامي. والأكثر إثارةً للحساسيات التدخّل التركي المباشر في وقت تتصاعد النزعة العثمانية السلطانية لدى أردوغان، مرفقة بجنون قيادة العالم السني عبر رعاية نسخة متطرّفة من “الإخوان المسلمين”. ونكء الجرح الأرمني سهلٌ، حتى من دون مسارعة الرئيس التركي الى تشجيع العملية العسكرية الأذرية أو تهديد جمهورية ارمينيا كلّها بالاحتلال وبئس المصير. يكفي أن أنقرة تنكر حتى يومنا هذا “الإبادة الأرمنية” معتبرةً قتل مليون ونصف مليون أرمني قبل مئة عام حدثاً تاريخياً تتساوى فيه المسؤوليات بين ضحايا وجلادين.

ومن الوقائع الصعبة أنّ أرمينيا وأرتساخ محكومتان بحقائق جغرافية وطبيعية غير مؤاتية. لا منفذ بحرياً ولا نفط وغاز يجذبان المصالح الدولية ولا وجود ديموغرافياً كثيفاً ولا حليف يصرخ “يا غيرة الدين”، فيما أذربيجان تملك كلّ ذلك، وخصوصاً خطاباً قومياً ودينياً استدرج دعم الاصوليتين الايرانية والتركية في تقاطعٍ استثنائي. ومن حظّ أرمينيا العاثر أنّ ارتساخ ليست أوروبية ليعاملها الغرب مثل كوسوفو، التي تعرّضت للعدوان الصربي ولم ينقذها بعد مجزرة “سربرينتشا” بحق المسلمين الا القصف الأطلسي المدمّر وجرّ مجرمي الحرب الصربيين الى لاهاي.

هل تتحقّق العدالة يوماً لأرمن أرتساخ؟ مع الأسف، ربما ليس أكثر ممّا تحقّق للفلسطينيين على يد المحتلين الاسرائيليين، ولا أكثر مما تحقّق للبنانيين تعويضاً عن الاحتلال السوري الشقيق.​

اترك تعليقًا