ثلاث أفكار أساسية كانت مدارَ تشاورٍ بين قوى ١٤ آذار تحت عنوان كسر الجمود في الفراغ الرئاسي، وذلك على رغم قناعة هذه القوى بوجودِ حاجزَين خارجي وداخلي يحولان دون انتخابِ رئيسٍ جديد: غياب التوافق السعودي-الإيراني، وتمسّك العماد ميشال عون بترشيحه.
ولكنّ رفض قوى ١٤ آذار التسليم بهذا الأمر الواقع، على غرار البطريرك بشارة الراعي، دفعها إلى التفكير بخياراتٍ عدة أهمها ثلاثة:
الخيار الأول، الاستقالة من الحكومة: لم يُطرح هذا الخيار أو الخيار الذي سيليه من زاوية تعطيلية للمؤسسات، خصوصاً أنّ الهدف من إنهاء الفراغ تفعيل هذه المؤسسات، وما يصحّ على رفض التشريع في مجلس النواب لا ينسحب على قضايا أخرى، لأنّ هذا الجانب منصوصٌ عنه في الدستور لجهة تحوّل المجلس إلى هيئة انتخابية ريثما يُصار إلى انتخاب رئيس للجمهورية. فالهدف إذاً ممارسة الضغط بالوسائل المشروعة وضمن القانون من أجل التسريع في عملية الانتخاب، وخشيةَ أن يتحوّل الفراغ إلى مسألة بديهية وطبيعية.
ولكن بعد دراسة معمّقة، تمّ استبعاد خيار الاستقالة من الحكومة للأسباب الآتية:
أ- تأليف الحكومة أدخل لبنان مرحلةً من الاستقرار الأمني والسياسي، ويُخشى من عودة التوترات الأمنية والتشنجات السياسية في حال تعليق العمل الحكومي ولو من باب الضغط الرئاسي.
ب- الترتيب الحكومي جاء نتيجة تسويةٍ إقليمية-دولية لتحييد لبنان، وكان باكورة الاتفاقات السعودية-الإيرانية ولو غير المباشرة، وبالتالي الخروج من الحكومة يتجاوز قدرةَ الأطراف المحلية ويرفع عن لبنان المظلة الخارجية.
ج- التعاون الحكومي تحوّل إلى مطلبٍ لدى جميع القوى السياسية التي ترى فيه حاجةً لتبريد المناخات السياسية وإبعاد العدوى السورية والعراقية عن لبنان.
الخيار الثاني، التحرّكات الشعبية: الهدف من وراء هذا الطرح مزدوج: إظهارُ أنّ الانتخابات الرئاسية قضية شعبية لا نخبوية، وتدخل في صميم الوجدان المسيحي الذي يعتبر أنّ الرئاسة الأولى والجيش هما الضمانة الأساسية لوجوده. تحويل الشغور الرئاسي إلى مدخل لتجديد انتفاضة الاستقلال.
وإذا كانت النّية الأساسية من وراء هذا الطرح تحريك الملف الرئاسي، إلّا أنّ أمامه محاذيرَ عدة أهمها:
١- استخدامُ شارعٍ في مواجهة شارع، حيث يتمّ استغلال توجّه ١٤ آذار السلمي والإيجابي كحجة لجرّ لبنان إلى مرحلةٍ من عدم الاستقرار وانتزاع تنازلات من ١٤ آذار.
٢- ارتفاعُ منسوب التوتر نتيجة نقل الأزمة الرئاسية إلى الشارع، وإشغال القوى الأمنية بضبط الوضع في الداخل، فيما الخطر يتهدّد لبنان من الحدود مع سوريا وفي مناطق التوتر التقليدية.
٣- عدمُ تجاوب الناس مع الدعوات إلى النزول للشارع، وذلك بفعل الإحباط الذي تسلل إلى جسمِ وروحِ الرأي العام الاستقلالي نتيجةَ الخيبات المتتالية ووصول الأزمة إلى طريق مسدود، وبالتالي عدم تلبية الناس يشكل ضربة موجعة لقوى ١٤ آذار.
الخيار الثالث، التقدّم بخطوة عملية رئاسياً: لا يمكن الاستهانة بما حققته قوى ١٤ آذار منذ انطلاق السباق الرئاسي، حيث نجحت بإظهار الطرف المعطّل ووضعه تحت المجهر أمام الرأي العام المحلي والخارجي.
كما لا يمكن التقليل من النقطة التي بدأت فيها معركتها الرئاسية وما وصلت إليه اليوم، من تجاوز عقبة الانفتاح بين “المستقبل” و”التيار الوطني الحر”‘ التي انتقلت من الغزل إلى الاشتباك السياسي، إلى التموضعِ في الخندق نفسه مع البطريرك الماروني الذي خاض ويخوض أشرس مواجهة ضدّ القوى المعطلة لانتخاب رئيس جديد.
فما بين العجز عن انتخاب رئيس وبين التسليم بهذا الواقع اعتمدت ١٤ آذار خيار الضغط المتواصل الذي أحرج العماد ميشال عون ودفعه إلى إطلاق مواقف ومبادرات لتحوير الأنظار عن تحميله مسؤولية التعطيل، ما أدّى إلى ارتكابه أخطاء وضرب علاقته مع “المستقبل”، وبالتالي أهمية تموضعها جعلها في موقع المبادر والمُتَهِم، فيما الفريق الآخر في موقع ردّ الفعل والمُتَهَم.
ومن هذا المنطلق الهدف من هذه المبادرة زيادة الضغط على الفريق المعطل، هذا الضغط الذي لا بدّ في لحظة تطوّر ظروفٍ خارجية أن يؤدّي إلى الاختراق المطلوب، وذلك على طريقة التراكم والخطوة خطوة.
وأما مضمون هذه المبادرة فيرتكز على ترجمة ما كان بادر إليه الدكتور سمير جعجع ولاحقاً الرئيس سعد الحريري لجهة البحث عن مرشح تسوية مع الفريق الآخر عبر تأليف وفدٍ يلتقي مكوّنات ٨ آذار والقوى الوسطية على قاعدة الاتفاق على مرشح تسوية، ولكن في حال رفض التجاوب يعود فريق ١٤ آذار إلى المربّع الأول، أي إلى التمسك بترشيح جعجع. والخلفية وراءَ العودة إلى ترشيح رئيس “القوات” منع عون من استغلال هذه المبادرة للقول إنّ هدف ١٤ آذار الأساسي الوصول إلى مرشح غير تمثيلي.
وفي حال أبصرت هذه المبادرة النور والتي يتمّ وضع اللمسات الأخيرة عليها يعني المزيد من حشر عون وإرباك “حزب الله” وإظهارهما بشكل واضح بأنهما يعوقان ويعطّلان الانتخابات الرئاسية.
فالسقف المُتاح في هذه الظروف لا يخرج عن سياق الخيار الثالث، وهذا السقف ليس بالقليل إطلاقاً، خصوصاً أنّ المعارك لا تُؤخذ، غالباً، بالضربة القاضية، إنما بتسجيل النقاط، وهذا الكمّ من النقاط الذي نجحت 14 آذار بتسجيله سيخوّلها دون شك تقصير فترة الشغور وربح المعركة الرئاسية.